-
هكذا صعدت روحي إلى السماء ...
12 - 11 - 2020
فادي قرقوز - مصور صحفي سوري - خاص immigrants now - المهاجرون الآن - قصصكم
جالس بغرفة صغيرة أقوم بعملية المونتاج لبعض الفيديوهات التي تردني من أصدقائي بالعمل للقصف والدمار لبلدتي القصير.
كنت أتابع الفيديوهات أولا على هاتفي ثم أنقلها إلى جهازي المحمول ( اللابتوب ) لأقوم بعدها بمنتجتها عبر برنامج حديث لهذه الغاية... في أحد المشاهد العابرة، صرخ قلبي أن توقف ... أصبت بصدمة لا أستطيع وصفها، هل كانت ألم ذبحة صدرية، أم هو ألم خروج الروح من الجسد .. توقفت عند المشهد وحدقت أكثر، لست مخطئا كان بطل المشهد أبي وأخي الصغير، نعم كانا أبي وأخي.
صوتهما وصورتهما لا تفارقني حتى هذه اللحظة، أبي وأخي الصغير هادي، أصيبا
بالقصف الجنوني لبلدتي، لم أستطع أن أعي إن كانا بخير أم لا، هرعت مسرعاً للمشفى في محاولة للاطمئنان عليهما، لكن مشهد المشفى بحد ذاته كان أكثر ايلاماً، صراخ، ضجيج، الجرحى في كل مكان، الدماء تغطي الأرض والمقاعد والأسرة وكل شيء، نساء فقدن أبناءهن، ورجال فقدوا كامل أسرهم وكلٌ يبكي ألمه.
دخلت للغرفة التي قالوا لي أن والدي وأخي فيها، رأيتهما لكني لوهلة لم أعرفهما، كانت الدماء الممزوجة بالتراب تغطي وجهيهما وجسديهما، والدي ينزف من فتحةٍ كبيرةفي صدره دره، وساقه اليسرى مهشمة تماماً، وأخي على الأرض رجله اليمنى تكد لا ترى من حجم التهشم الكبير الذي أصابها، صحت بأعلى صوتي طالباً الطبيب وسؤال واحد على شفتي:" هل سيعيشان؟
هز الطبيب برأسه وقال الله يلطف ثم جاء الممرض وبدأ بتنظيف جرح والدي الذي في صدره، أما أرجلهم فقد كانت بحاجة لعمليات جراحية وتركيب أسياخ معدنية فيها لكن الوضع في المشفى ما كان يحتمل، بسبب الزحام الشديد، فبعد ان تم تنظيف جروح أبي وأخي طلب مني الطبيب أن أنقلهم من الغرفة كي أفسح المجال لحرجى جدد مكانهما، وبالفعل نقلتهما بمساعدة أخي الأكبر إلى مستودع بجانب براد الموتى، بانتظار أن تصل الأسياخ لبدء العملية، هذا الانتظار الذي دام لأيامٍ طويلة، وكل يوم أجلب الممرض بنفسي ليغير لهما عن جروحهما ويعتني بها، وينظف أرجلهم المهشمة ويلفها بالشاش، وهنا كان الألم يعتصر قلبي عندما أسمع أنين ألمهما مع صوت قطع العظام التي تصطك ببعضها.
بعد أسبوع أحسسته دهراً ذهبت إلى المشفى كي أحضر الممرض للمستودع كي يعتني بوالدي وأخي، على باب الإسعاف رأيت سيارة بيك آب محملة بثلاثة أشخاص، شخصين على قيد الحياة وشخص مغطى بشكل كامل وأنا على باب المشفى انتبهت لقدم الشخص المغطى بشكل كامل في السيارة، فانتبهت لقدم أخي، نعم هي قدم أخي الأكبر شادي، فأنا أعرفها ولو كانت بين ملايين الأقدام، قلت في نفسي لابد أنهم أحضروا أخي كي يفحصه الطبيب في السيارة، لكن الصدمة التي صفعتني عندما كشف الطبيب عن وجه الجثة، فقد كان أخي الأكبر شادي ...رميت نفسي على صدره، ضممته إلى صدري، وأنا أصيح باسمه، فجأة صمتت عندما قال لي الطبيب الله يرحمه.
في ذلك اليوم بدل أن أحضر الممرض ليعتني بأبي وأخي هادي، أخذت شادي لبراد الموتى، بجانب المستودع الذي يستلقي فيه أبي وأخي... دخلت على والدي وأنا أبكي: داهمني أبي بالسؤال : شادي استشهد؟
قلت: نعم وضممته وبدأ بالبكاء.
طلب أن يراه للمرة الأخير، أحضرته من براد الموتى محملاً على نقالة ووضعته بين والدي وأخي كي يودعوه قبل أن أقوم مع بعض رفاقي بدفنه.
بعد ثلاثة ايام من الدفن اتصل بي الطبيب وقال لي والدك وأخيك جاهزين للعملية الجراحية وتركيب أسياخ بأرجلهم والحمد لله تمت العملية بنجاح.
بعد أسبوع من العملية أذن لنا الطبيب أن نخرج من المشفى، وأجبرنا النظام أن نخرج قسرياً من مدينتنا القصير عبر ممر فتحة الموت مشياً على الأقدام، وهنا بدأت معاناة أخرى، فقد وضعنا الجرحى لنقلهم في سيارات، ولكن ما إن قطعنا حوالي ٥ كم حتى بدأ جيش الأسد بقصف الطريق مما ادى لهروب سائقي السيارات، انتظرنا في أماكننا حتى يخيم الليل جيداً كي نمشي ليلاً وما زلنا دون زادٍ أو زواد، أصبحنا نأكل من شجر اللوز ونعصر حصرم العنب لترطيب شفانا بدلاً من الماء، مشنا أنا وأخي فشاهدنا الجرحى ملقيين على الطريق وسمعنا أنينهم بينهم من مات على الطريق ومنهم من نجا، قلت لأخي الصغير محمد دعنا نحمل جرحى لعل وعسى الله يهدي أحدهم ليرد الجميل لنا فيحمل والدنا، فكنا نمشي بضع أمتار ثم نعطي الجريح لأشخاص آخرين، كان عددنا بالآلاف، وهكذا على الجريح الثاني والثالث والرابع كلما استرحنا قليلاً نحمل جريح ملقى على الطريق، إلى أن وجدنا ذلك الجريح الذي حملنا وكان صوت أنينه لا ينقطع وبغير وعي يقول أين فادي أين محمد أين أولادي، كشفنا عن وجهه في عتمة الليل وإذ هو أبي كان مرمياً على سور من حديد وأنا ومحمد نمشي به ونقول له انا فادي انا محمد يا أبي ويقول أين هادي نقول له وهبناه لله يا أبي فالناس وضعها صعب وأعداد كبيرة ومن المستحيل البحث عن هادي في هذا العتم وهذا الازدحام، ونحن تحت القصف وطلقات الخطاط التي تمر بجانبنا، لكنه ورغم كل شبء كان يقول لنا اتركوني وابحثو عن هادي ، فأبي حرقةً على أخي الشهيد شادي، وعلى أبي الجريح بين يدي، وعلى أخي الجريح الآخر الذي فقدته في الطريق.
مشينا أكثر من ٥ كم حتى صارت قدماي تنزفان من صعوبة الطريق وحمل والدي وفجأة نسمع قصفاً ويشتعل حريقاً بسببه، وهنا كانت المفاجأة ورأيت أخي هادي بالصدفة وهو يزحف على الأرض من حلاوة الروح هارباً من النار قلت لأبي هناك هادي.
فرحت وطلبت من أخي محمد أن يحمل هو هادي على كتفه وأنا أتكفل بحمل والدي على كتفي، مشينا بعدها حوالي ٢ كم محمولين على الاكتاف وفي الصباح وصلنا الى منطقة مدينة الأحلام، فأتت سيارات لتنقلنا الى يبرود بعد مشي حوالي ٢٤ كم على مدى يومين.
مكثنا في يبرود ٤ اشهر ليتجدد القصف ونعود للهرب أنا وعائلتي الى مخميات عرسال اللبنانية فأواجه هناك مرارةً أخرى من مرارات اللجوء.
هذه ليست بقصة خيالية انها قصة واقعية
نعم هكذا صعدت روحي الى السماء، أشعر بأن روحي صعدت إلى السماء ولم تعد معي.
قد تحب أيضاe
الأكثر قراءة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!