-
في سجن رومية.. يموت اللبناني مرة والسوريّ مرتين
-
عندما يصبح الموت أُمنية.. وجهان لمصيرٍ واحد
تحقيق صحفي: مزن مرشد – صخر ادريس
أن يصبح الموت أمنيتك...أن تصبح الحياة مصدراً يومياً للألم بالنسبة لك، أن يكون قتلك خلاصك، فأنت بالتأكيد سجيناً سورياً في سجن روميّة اللبناني.
يعيش السجناء في سجن رومية المركزي أوضاعاً إنسانية مزرية لا تبدأ بشح الطعام وانعدام الرعاية الطبية، ولا تنتهي بتأخر المحاكمات والأحكام الجائرة، بل تتجاوزها لتصبح كل هذه الأشياء مجتمعة مصدراً مهدداً للبقاء.
قد لا يختلف سجن رومية من حيث وضعه السيء عن باقي السجون المهملة في بعض الدول العربية، لكن ما يزيد الطين بلة هو الوضع المتردي في لبنان بشكل عام، فالبلاد التي لا تستطيع تأمين أساسيات الحياة لمواطنيها، فكيف ستؤمن أوضاعاً معيشية مقبولة للقابعين في سجونها؟ فالسجون مرآة الدول.
المبنى B "حكاية ألم سوري"
سجن رومية، أكبر السجون اللبنانية، بني في أواخر الستينيات، وافتتح عام 1970، في منطقة رومية-المتن شرق بيروت.
صمم السجن ليستوعب حوالي 1500 سجين لكنه يضم اليوم ما يزيد على 3700 سجين بحسب الأرقام الحكومية في لبنان، ويعتبر من السجون المكتظة للغاية، إذا يحتوي رومية ما يقارب نصف كل عدد النزلاء في كافة السجون اللبنانية البالغ عددهم حوالي 8000 سجين يتوزعون على السجون المركزية الثلاث في البلاد (سجن رومية – وزحلة- وطرابلس) و22 سجن فرعي يمكن اعتبارها مراكز توقيف احتياطية أي (نظارة).
وتعاني جميع السجون من بطء الإجراءات وتأخر المحاكمات لسنوات وليس فقط لشهور.
سوريون في رومية
يبلغ عدد الموقوفين السوريين في السجن ما يقارب الـ 500 سجين بحسب توثيقات منظمة " بلا قيود" المعنية بمتابعة أوضاع السجناء السوريون في لبنان، موزعين بين مباني السجن، معظمهم محتجزين في المبنى (B) إذ يتواجد ضمنه أكثر من 200 حالة موثقة بالاسم لدى المنظمة.
ويختلف الوضع القانوني للمحتجزين السوريين داخل السجن بين موقوفين، ومحكومين، ومن هم في انتظار صدور الأحكام، وهنا تشير المنظمة للفترات الزمنية الطويلة جدا التي تعاني منها الملفات القانونية للموقوفين السوريين داخل أورقه القضاء اللبناني، اذ تستغرق بعض القضايا (المنظمة على إطلاع على عدد كبير منها) سنوات طويلة لغاية صدور الحكم.
وتُعلق المحامية هلا حمزة المتخصصة بقضايا الإرهاب ومديرة مؤسسة Helping hands لحقوق الإنسان، "أن السجن غير مسؤول عن هذا التأخير نهائياً، فالسجن هو مكان للاحتجاز فقط، وينفذ السجن سوق المتهمين حالما يطلب منه القضاء ذلك، فتأخير المحاكمات هو من المحاكم ومن النيابات العامة وليس من السجن، مراتٍ قليلة تأخر السجن بسوق المطلوبين نظراً لانعدام مادة المازوت لديه لتحريك آلياته التي ينقل بها المطلوبين للسوق، أما التأخير بالمحاكمات فقد ازداد خلال السنوات الثلاث الماضية وهذا بسبب جائحة كورونا من جهة، وزيادة عدد الجنايات والجرائم من جهة أخرى، وعدم امكانية النظر بأكثر من عدد معين من القضايا في اليوم لذلك كان التأخير."
وترى المحامية ديالا شحادة أن السلطة القضائية تتحمل كامل المسؤولية لأنها تستطيع تفعيل القانون بتقصير مدة التوقيف الاحتياطي حسب المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، الأمر الآخر الذي يجب الانتباه له بأنه عندما يكون هناك اعتكاف من القضاة المستقلين الذين يحتاجون لتكريس استقلاليتهم عن السلطة التنفيذية، يستطيعون على الأقل في إطار ممارستهم لحقهم الدستوري بالاعتكاف (كونهم للآن ليسوا سلطة مستقلة دستورياً)، عليهم أن يحرروا الموقوفين من تبعات هذا الاعتكاف وأن يخلوا سبيلهم ويتيحوا لهم متابعة محاكماتهم عن بعد خاصة إذا كانوا ضحايا."
أما عن تهم الموقوفين السوريين وبحسب منظمة بلا قيود فإن أغلب التهم التي يتم توجيهها للمحتجزين السوريين داخل السجن تتعلق بالإرهاب أو الانتماء لتنظيمات إرهابية ( كتنظيم داعش المصنف إرهابياً) إلا أن المنظمة تؤكد من خلال متابعتها للكثير من ملفات المحتجزين السوريين داخل السجن وبشكل جازم أن هناك عدداً كبيراً جداً من التهم كيدية، وذات خلفيات سياسية طالت عدداً كبيراً من نشطاء الرأي أو نشطاء الحراك المدني في سوريا قبل دخولهم للأراضي اللبنانية كنازحين فارين من بطش سلطات النظام السوري، أو من ملاحقات أمنية بحقهم، هؤلاء تحديداً الصقت بهم تهمة الانتماء لمنظمات إرهابية كفعل إنتقامي من بعض الشخصيات ضمن القضاء اللبناني المحسوبة على تيارات سياسية معينة بهدف الانتقام من هؤلاء (المعارضين).
وهذا ما أكده أحد النزلاء السوريين في السجن والذي تواصلنا معه عبر برنامج ( واتساب للمحادثات القصيرة) بأن كل ما قالته المنظمة صحيح تماماً ففي المبنى (B) يقبع غالبية الموقوفين السوريين والذي ينتمون للون واحد وغالبيتهم من المناطق الحدودية المحاذية للبنان، كجبال القلمون والقصير وغيرها، ويلمح مصدرنا - والذي نفضل عدم الكشف عن هويته حرصاً على سلامته- بما يشبه الجزم أن توقيفهم كان على خلفية نشاطهم في الحراك السوري المعارض لحكم الأسد، وتم توجيه تهم لهم تقحمهم بأحداث لبنانية لم يتدخلوا بها أصلاً، والانتماء لمجموعات إرهابية لا علاقة لهم بها لا من قريب ولا من بعيد، ويقول بأنه حتى السلطات المسؤولة عن السجن تسمي القسم (B) بقسم الإسلاميين.
ويضيف:" كلنا وقعنا أوراق اعترافات لا ندري ما كُتب فيها، تحت كم التعذيب الهائل الذي تعرضنا له أثناء التحقيق، كنا نوقع أو نبصم على محاضر اعتراف لم نقرأها، هذا التوقع هو خلاصنا الوحيد من موت محتم تحت التعذيب المستمر لأيام، فيصبح التوقيع رحمة"
تعذيب ممنهج في فروع التحقيق
يقول الأستاذ المحامي محمد صبلوح أن التعذيب يتم أثناء التحقيقات الأولية لانتزاع الاعترافات بالقوة، وجميع الأجهزة الأمنية تمارس التعذيب، واليوم يمارسوه بطريق أذكى، فهم يمنعون الزيارات عن الموقوفين ويؤخرونها ريثما تختفي آثار التعذيب.
وهذا ما قاله مصدر "المهاجرون الآن" من داخل السجن أن التعذيب يتم في فروع التحقيق بشكل ممنهج كي يوقع المعتقل على أوراق اعتراف محضرة مسبقاً، ويقول: " تحت التعذيب سنعترف بأي شيء، سنقول بأننا من أشغل حرب البسوس، وبأننا ثقبنا طبقة الأوزون وبأننا من رمى القنبلة الذرية، تحت التعذيب لا نريد إلا أن ينتهي الألم، لنخرج من الفرع أموات ولكن نتنفس".
وهنا يضيف صلبوح: " عندما نقول أن التعذيب في لبنان ممنهج، تنتفض السلطات لتبرر بأن التعذيب يحدث ولكن بأخطاء فردية من بعض العناصر، وبحوادث خاصة جداً، وهذا الكلام عارٍ عن الصحة، فمنذ العام 2017 تقدمنا بطلبات للتحقيق بقضايا تعذيب ونحن اليوم في عام 2022 ولم يتم التحقيق ولا بجريمة تعذيب واحدة، هناك الكثير من دعاوى التعذيب، لكن النيابة العامة التمييزية تتحمل كامل المسؤولية عن عدم التحقيق فيها، وطيها، لأن واجبها قانونياً إحالة كافة الملفات للقضاء العدلي، وهي تقوم بمخالفة القانون بنفسها، وتحول هذه الدعاوى للقضاء العسكري الذي بدوره يعتم عليها ويطويها، مما يشكل غطاء للأجهزة الأمنية بعملية مقصودة ليسمح لهم بالإفلات من العقاب."
وجهان لتعذيب واحد
تعذر التواصل من قبل المهاجرون الآن وليفانت نيوز، مع النيابة التميزية لإتاحة الفرصة لها لتوضيح موقفها.
ففي سوريا نعرف جيداً ماذا يعني التعذيب ونعرف العديد من أدوات وطرق التعذيب المستخدمة في المعتقلات السورية، ولا نعرف ان كانت نفس هذه الطرق تستخدم في لبنان، سألت "المهاجرون الآن وليفانت نيوز" مصادرها داخل السجن والخارجين من السجن ممن تعرضوا للتعذيب، وهنا كانت المفاجأة بحجم العنف المستخدم على الموقوفين، ووجدنا أن بعض الوسائل ذاتها ولكن تختلف تسميتها بين البلدين، فأسلوب "الشبح" في سوريا هو "البلانكو" في لبنان، إذ يُعلق الموقوف من يديه إلى الأعلى، ويتم رفعه عن الأرض بحيث لا تلامس قدماه الأرض مهما حاول ذلك، ويبقى معلقاً دون طعام أو شراب أو قضاء حاجته لأيام، حتى يقبل التوقيع على اعترافات محضرة مسبقاً ثم يودع السجن.
في حادثة أخرى تم رش مادة السبيرتو (الكحول المعقم) على وجه موقوف قاصر وتم تهديده بإشعال النار في وجهه إن رفض التوقيع على اعترافات جاهزة لا يعلم الموقوف ما طبيعتها.
وهناك أيضاً طرق أخرى، كاللذع بالكهرباء، حيث توصل الكهرباء بأعضاء المعتقلين التناسلية، وفي هذه الحالة سيعترف الموقوف بأي تهمة موجهة إليه، سيعترف بما يريدون دون تفكير، وأحد الذين تعرضوا لهذا النوع من التعذيب اضطر لإجراء أربع عمليات جراحية في أعضائه بعد خروجه.
التعذيب الأشد قسوة على الاطلاق والذي يؤدي بالغالب إلى وفاة الموقوف هو الضرب العنيف بقضيب حديدي محمى، تفوق درجة حرارته المئة درجة ( تقدير أحد المصادر لأن الطرف المحمي وصل للون الأحمر من شدة الحرارة)، وبهذا القضيب يتم ضرب المعتقل على كافة مناطق جسده دون تمييز ما يؤدي إلى تمزق بالجلد وحروق عميقة تصل شدتها إلى الدرجة الثالثة، و الحرق بهذه الدرجة مميت إن لم تتم معالجته – وهو مالم يتم – بل يستمر التعذيب رغم الإصابات والحروق، وقد تؤدي هذه الضربات إلى أذية خطيرة في أعضاء حيوية في الجسم تؤدي للوفاة أو فقدان حياة المعتقل نتيجة صدمة الألم.
ويعلق المحامي محمد صبلوح على موضوع التعذيب بتحميل" مسؤولية التعذيب القضاء الذي لا ينفذ القوانين، والوزراء الذين يتقاعسون عن أداء دورهم الرقابي والتنفيذي، والمجلس التشريعي أيضاً، فقد قمت بالشراكة مع 24 منظمة دولية بإعداد كتاب وعريضة صادقت عليها بالاطلاع والإمضاء منظمة (أمنستي) و (هيومن رايتس ووتش) نطالب فيها بمسائلة 3 وزراء وهم العدل والدفاع والداخلية، وسلمتها أصولاً للنائب ميشيل موسى رئيس كتلة حقوق الإنسان في مجلس النواب اللبناني، ووعدني بأن تتم المساءلة في المجلس بحضوري وحضور ممثل عن هذه المنظمات ولكنه كان دائماً يماطل بالموضوع ولم تتم المساءلة منذ عام ونصف حتى اليوم".
وعليه قمنا بالاتصال بالنائب ميشيل موسى وسؤاله مباشرة عن هذا التأخير بالمساءلة وسببه حيث أكد لـ "المهاجرون الآن وليفانت نيوز" أنه تم الاجتماع مع الوزراء المعنيين وأكثر من مرة وبحضور الأستاذ صلبوح، ونقيب المحامين في الشمال، مبيناً، نحن سلطة تشريعية ولسنا تنفيذية ونصرّ على الالتزام بالقوانين، ولذلك عملنا في الكتلة على تعديل بعض القوانين للتوافق مع معايير حقوق الانسان، وأنشأنا كتلة حقوق الانسان في البرلمان الهيئة الوطنية لحقوق الانسان والتي تتضمن لجنة لمناهضة التعذيب تلتزم بقرارات الأمم المتحدة تُلزم الجهات المعنية بتعيين محامي لأي موقوف مع تقديم الرعاية الطبية له عند اللزوم، وحقه بالاتصال مع أهله، وتُلزم جهات التحقيق بتصوير أي تحقيق كاملاً صوت وصورة للحد من التعذيب."
من جحيم إلى آخر
ينتهي التعذيب بانتهاء التحقيق، وكما أكد بعض الشهود سابقاً بعد أن يجبر الموقوف للتوقيع على أي اعتراف مهما احتوى للتخلص من أساليب التعذيب الوحشية بحق الموقوفين.
يصل السجين إلى رومية ناجياً بالصدفة من موت محتوم تحت تعذيب جائر، لا يترك في أرواحهم مكاناً للحياة – أموات يتنفسون – كما يصف السجناء أنفسهم، ليبدأ تعذيب من نوع آخر، وهذه المرة تعذيب يومي دون انقطاع طيلة فترة اقامتهم سواء بانتظار المحاكمة أو لقضاء فترة محكوميتهم.
يعاني السجن من ظروف سيئة للغاية، بداية من غرف الإقامة المسماة "مهاجع" والتي لا تتجاوز مساحتها الستة أمتار مربعة متضمنة دورة مياه صغيرة، والمفترض أن تتسع لثلاثة أشخاص على الأكثر لكنها تضم اليوم ستة أو سبعة أشخاص ويصل العدد في بعض الغرف لعشرة أشخاص، الأمر الذي يجعل العيش في هذه المساحة الضيقة مع هذا العدد شبه مستحيلة.
مساحة الغرف تجعل لا إمكانية حتى للتنفس بشكل طبيعي ناهيك عن سهولة انتقال العدوى والأمراض بين السجناء، وللمرض قصة أخرى.
يحتوي كل مبنى من مباني السجن على صيدلية في الطابق الأرضي، يداوم فيها طبيب نهاراً ولا يوجد أي مناوب ليلي.
يصف أحد السجناء محتوياتها بأن فيها سرير فحص مكسور لا يمكنهم الاستلقاء عليه، وسماعة طبية معلقة على الجدار لم يسبق لهم أن رأوا الطبيب يستعملها، وعلى رفوف الصيدلية بعض علب مسكن الألم التقليدي المعروف للجميع وباقي الرفوف خالية تماماً، أما إذا احتاجت حالة السجين لطبيب فهذا سيكلفه مبلغاً يتراوح بين 50-80 دولار يدفعها المريض من جيبه الخاص ثمن كشف الطبيب، هذا غير الدواء إذ باتت جميع الوصفات الطبية تمهر بملاحظة " على نفقته الخاصة" ولذلك بات السجناء يتحملون أي ألم على أن يطلبوا رؤية طبيب ما يجعل الأمراض تتفاقم وخطر العدوى يتضاعف، فيحتضر المريض من الألم وليس من المرض.
السجناء الذين يعانون من الأمراض المزمنة يتلقون الأدوية من أهلهم، أو يلجؤون للمنظمات في محاولة لتأمين الأدوية اللازمة لحالاتهم، المرض في السجن هو مصيبة أخرى تقع على رأس صاحبها فوق كل ما يتحمله من مصائب.
فقط طبيب الأعصاب يصف للسجناء الأقراص المنومة وهذه موجودة وتؤمن بسهولة أما باقي الأمراض فلا دواء لها سوى البانادول.
و"بالتواصل مع مصدر أمني رفيع في قوى الأمن الداخلي وأحد المشرفين على السجن نفى ما يقوله السجناء وأكد حرص إدارة السجن على تأمين الأدوية بالوقت الحاضر من حصة الأدوية المخصصة لقوات الأمن الداخلي، لتحرم قوات الأمن من الدواء كي يتم تأمينه للسجن، مؤكداً الدواء المفقود في صيدليات لبنان موجود في صيدلية السجن ومن غير الممكن أن يقصروا بتأمين الدواء أو بأي نقص."
بالمقابل أكد لنا عدد من السجناء إصابتهم بأنواع من الأمراض الجلدية لا يعرفون ما هي بالضبط إضافة لانتشار الجرب بينهم وبشكل كبير، ناهيك عن فقر السجن بالأدوية العلاجية لهذه الآفات، فانعدام النظافة والحالة المزرية للحمامات تجعلهم غير قادرين على تنظيف أنفسهم كما يجب، كما وثقت منظمة "بلا قيود" أكثر من 20 حالة وفاة منذ مطلع العام الحالي، اربعة منها في نهاية آب من هذا العام 2022.
ويصف لنا أحد مصادر "المهاجرون الآن وليفانت نيوز" حال الحمامات التي يستحمون بها بأنها حمامات متهالكة لا أبواب لها مجرد ستارة قماشية قذرة، جدرانها مليئة بالعفن، يمنحهم الصليب الأحمر قطعتين من الصابون كل ستة أشهر، ويشتري لهم ذووهم عبوة شامبو شهرياً، يحاول الاقتصاد فيها لتكفيه أطول فترة ممكنة، فالسجين السوري إما لا أهل له في لبنان، أو أنهم يعيشون بالمخيمات بلا عمل، أو يملكون عملاً لا يؤمن لهم سوى ما يبقيهم على قيد الحياة فكيف سيصرفون على ابنهم السجين؟ وكل السجن بكل غرفه يعاني من العفونة بسبب الرطوبة العالية في بيروت.
أما مياه الحمام فهي مياه آسنة تنزل من الصنبور بلون أصفر ورائحة كريهة جداً، وعن هذه الجزئية يقول المصدر الأمني بأن الماء في السجن مفلتر وقد قدم الصليب الأحمر الدولي فلاتر منقية للمياه وأشرف على تركيبها بكل أقسام السجن.
للطعام حكاية أخرى
اتصلت "المهاجرون الآن وليفانت نيوز" بالمصدر الأمني واستفسرت منه عن كمية الطعام ونوعيته في السجن فقال لنا بأن إدارة السجن تلتزم بالمعايير الدولية وتقدم للسجناء ثلاث حصص من اللحوم اسبوعياً، حصتين من اللحوم الحمراء وحصة من الدجاج إضافة إلى الفاكهة مرة أو مرتين بالأسبوع، أن الطعام كاف نوعاً ما نظراً للاكتظاظ الشديد في السجن لكنه أكد على أن الطعام ذو نوعية جيدة قد لا يستطيع أن يأكل مثله المواطن اللبناني العادي في منزله في ظل هذه الظروف.
أما المعتقلين في السجن، فكان لهم رواية أخرى مغايرة تماماً عن رواية المسؤولين فالسجناء جوعى بكل معنى الكلمة، كميات الطعام غير كافية، ونوعيته رديئة، أحد السجناء يقول بأن الطعام يسبب آلام بالمعدة ومع ذلك يأكلونه فالجائع لن يسأل عن نوعية طعامه سيأكل أي شيء.
ويصف لنا سجين آخر مسيرة الطعام قائلاً بأن الطعام يُطبخ في مكان آخر وليس في رومية، ويتم احضاره للسجن في وقت الظهيرة من كل يوم ويوضع بالطابق الأرضي، وهنا ينوب سجينان عن كل غرفة ليحضرا الطعام لرفاقهما في الغرفة والأكل يومياً هو برغل مسلوق ولا شيء سواه، أحياناً يوزعون معه اللبن الرائب كل 15 يوماً ومخصص لـ 12 شخص والذي يكون غالباً سيئاً (محمض)، وأحياناً أخرى القليل من التفاح (المضروب) فيه عفن أو دود، وغالباً تنفذ كمية الطعام بعد عشر دقائق فقط من وصوله فالكمية التي تصل إلى القسم المكون من ثلاث طوابق غير كافية لإطعام طابق واحد رغم سوء نوعيته، فبحسب وصف السجناء أن الأكل غير صالح للاستهلاك البشري وهو مقرف أحياناً لكن: الجوع كافر.
يشكل السجناء فيما بينهم ما يشبه الجمعية، فيتشاركون ما يحصلون عليه من نقود قليلة من أهلهم ليشتروا بعض المؤن مثل الأرز، العدس، الزيت... الخ، فإدارة السجن تسمح لهم بإعداد الطعام في غرفهم على سخانات كهربائية صغيرة.
هذه التشاركية تقيهم شر الجوع المستمر داخل السجن، لكن القهر الأكبر يقع على السجناء الذين لا قدرة لديهم لشراء أي شيء، أو التشارك بأي شيء، هؤلاء - غالبيتهم من السوريين - يقومون بأعمال التنظيف في السجن، وداخل غرفه، وشطف الأروقة والحمامات وساحات السجن في سبيل الحصول على بعض المؤن من نزلاء الغرف كتبرع لهم لقاء عملهم، ومع ذلك يبقى شح الطعام أزمة لا حل لها، ويشير النائب ميشيل موسى بأن شح الطعام في السجن سببه الاكتظاظ الشديد، وقال:" عقدنا اجتماعاً خلال الأسبوع الماضي في كتلة حقوق الانسان في البرلمان لإيجاد حلول لمشكلته الاكتظاظ في السجن، فنحن بحاجة لسجون جديدة تتوافق مع المواصفات الدولية للسجون، ومجهزة لاستيعاب عدد أكبر من السجناء ونطالب بإنشائها، لأن الاكتظاظ ثم الاكتظاظ هو سبب كل المشكلات المتفاقمة داخل السجن.
أما بالنسبة لشح الطعام نحن نتواصل بشكل دائم مع المنظمات الدولية المعنية ومع منظمات المجتمع المدني ومنظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر، فالوضع الاقتصادي العام في لبنان سينعكس بالتأكيد على ميزانية السجن.، بالنهاية نحن لسنا هيئة تنفيذية لكننا نحاول التأثير والضغط باتجاه تحسين أوضاع السجن والمعيشة فيه"
ميزانية غامضة
أما بالنسبة للميزانية المخصصة للسجن فيوضح السيد "جورج غالي" عضو المجلس التنفيذي لمنظمة "ألف" غير الحكومية أن ميزانية السجن التي لا تزال غامضة وهي مرتبطة بالتالي بميزانية قوى الأمن الداخلي، لذا لا توجد ميزانية متخصصة للسجون، ويوضح القاضي "رجاء أبي نادر" أن التكلفة اليومية لاحتجاز السجين هي أيضا لغزاً من الألغاز.
بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان، والتي تنعكس بشكل خاص على الحياة اليومية لكل من يقطن البلاد، وعلى القدرة الشرائية والميزانيات المخصصة للمؤسسات، أصبح من الصعب بشكل متزايد على السلطات توفير وجبات كافية للسجناء، ويحذر المحامي محمد صبلوح مدير مركز حقوق الأسرى في نقابة أطباء طرابلس من أنه "إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة على وجه السرعة، فالسجن بكل تأكيد سيصل إلى حالة المجاعة بالتأكيد"
ويقول المحامي "جو كرم" ممثل الاتحاد الدولي للمحامين في لبنان والمستشار في التنمية القضائية، في تصريح صحفي سابق " لم تنشر الحكومة قط أرقاما عن كلفة السجين في اليوم، ببساطة لأنها سخيفة".
ويؤكد السجناء بأنهم على شفير مجاعة وشيكة في السجن وتصر الجهات الحكومية بإنكار هذا الكلام والتصريح مراراً لوسائل الإعلام بأن الوضع سيئ ولكنه ليس مأساوياً كما يصفه السجناء وذووهم.
وهنا تؤكد الدكتورة فاتن رمضان رئيسة منظمة "بلا قيود" التي تعنى بمتابعة أوضاع السجناء السوريين في سجن رومية بأن المنظمة تلقت أكثر من شكوى عن نقص الطعام، وحالات جوع داخل السجن وتقوم المنظمة بتقديم منح غذائية (حصص) كل فترة لداخل السجن عن طريق مكتب متابعة سجناء رومية التابع لمنظمة "بلا قيود" والذي يتواصل بشكل يومي مع نزلاء السجن.
في حين أنه وبتاريخ 29 آذار مارس من هذا العام طلب النائب العام للجمهورية "غسان عويدات"، بفتح تحقيق في الأمن الغذائي داخل السجون، بعد تقارير صحفية تشير إلى خطر المجاعة في بيئة السجن، وهذا يدعم رواية السجناء.
تضيف الدكتورة رمضان: "تقييمي الشخصي للوضع الحالي داخل سجن رومية خاصة فيما يخص المحتجزين السوريين داخله وعلى كافة الأصعدة الصحية والطبية والغذائية والنفسية ، هو تقييم سيء جدا فيما يخص وضع السجن الحالي، وهو بحاجة لمتابعة مباشرة وفورية والأولوية هي لتفادي وقوع مزيد من الضحايا (من اي جنسية كانت) نتيجة الاهمال أو نقص الرعاية و الخدمات الحاصلة في الوقت الحالي داخل السجن، و توجيه لجان طبية وحقوقية و إغاثية لداخل اروقة السجن للاطلاع على طبيعة الاوضاع على الارض التي يعاني منها نزلاء السجن و محاولة تقديم اي شكل من أشكال الدعم و المساعدة (من الجانب الإنساني على الأقل) لنزلاء السجن في اسرع وقت ممكن، كذلك استطاعت المنظمة تقديم المساعدة لعشرات السجناء من حملة الجنسية السورية، منها توكيل طرف قانوني لهم وتأمين النفقات أو تقديم تمييز لأحكام صادرة بحقهم عن طريق جهات قانونية، بالإضافة لتأمين الأدوية بشكل إسعافي للعشرات من الحالات التي تواصلت مع ادارة المنظمة من داخل السجن."
في السعي لتخليص السجناء السوريين من هذه المعاناة المستمرة التي لا يعرف لها نهاية حتى اليوم تستعد منظمة "بلا قيود" لأطلاق مبادرة تتقدم بها للسلطات اللبنانية ستخفف عنهم عبء 300 سجين سوري لديهم، وتنقذ هؤلاء من مصير مجهول، وموت بطي، وتنص المبادرة التي أعدتها المنظمة بالتعاون مع عدد من المؤسسات الحقوقية والقانونية ومؤسسات الدولة اللبنانية لاحقاً، ستستهدف عدداً كبيراً من نزلاء السجن، وخاصة ممن تأكدت المنظمة من ملفاتهم القانونية بأنهم ضحايا حرية الرأي والحراك المدني على وجه التحديد، وذلك للتخفيف قدر الإمكان من أحكامهم أو اصدار مراسيم عفو عنهم، على أن يعقب هذا الإجراء عدة إجراءات لاحقة بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، والدولة التركية واللبنانية لتسهيل نقل هؤلاء النزلاء مع عائلاتهم إلى مناطق الشمال السوري و ذلك كخطوة تقدم حلولا مجدية لكل الأطراف.
وعلى هذه المبادرة يرد النائب ميشيل موسى " القضية لا ترتبط بآراء شخصية لتلاقي استحساني أم لا، بل هو أمر مرتبط بمسألة النزوح السوري، وقبولها من عدمه منطوط بالوزارات المعنية وكما قلت هي جزء من ملف كبير ومرهق لا يعرض على مجلس النواب إلا بعد دراسته وتجهيز اقتراحات لتنفيذه في حال تمت الموافقة عليه، لكنني شخصياً لم أسمع بهذه المبادرة من قبل وكما قلت السجناء السوريون هم جزء من ملف النزوح السوري."
تبقى مشكلة السجن معلقة بلا حلول، بلا أفق، وبلا أي أمل بتحسن قريب.
السجناء يعيشون في ظروف قاسية لن يكون خطرها عليهم آنياً، ولن تكون محصورةً داخل جدران سجنهم، سنوات من الذل، من الجوع، من انعدام الحد الأدنى للحياة الكريمة ستكسر انسانيتهم وكرامتهم سترسخ عندهم شعوراً بالغُبن لن يمحوه افراج أو براءة، لن يلاموا إن خرجوا حاقدين، على سجانيهم وعلى أنفسهم وعلى المجتمع وعلى الحياة التي أجحفت بحقهم.
"ليتني كنت ميتاً"
هذه العبارة تكررت على لسان كل من تواصلت "المهاجرون الآن" معهم داخل السجن، بات الموت بالنسبة لهم أمنية غالية، يفضلونه على الاستمرار بهذه الأوضاع، فالموت لم يعد يخيفهم، بل على العكس تماماً بات أملاً وخلاصاً وانعتاقاً من ذل يومي يكسر أرواحهم.
تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون بين المهاجرون الآن وليفانت نيوز.
وجُمعت معلومات ولقاءات وصور التحقيق على مدار عدة أسابيع.
المهاجرون الآن - ليفانت نيوز
قد تحب أيضاe
الأكثر قراءة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!