-
سوريا: بيوت لاجئين في قبضة مزوّرين وشبكات مرتبطة بجهات أمنية… والحكومة السورية تعترف
-
هذا التحقيق يكشف قيام شبكات أمنية سورية بالتزوير في ملكية العقارات. المزوّرون هم أفراد ميليشيات وموظفون مرتبطون بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد
دمشق - تنشره المهاجرون الآن بالاتفاق مع شبكة سراج للتحقيقات الاستقصائية
هذا التحقيق يكشف قيام شبكات أمنية سورية بالتزوير في ملكية العقارات. المزوّرون هم أفراد ميليشيات وموظفون مرتبطون بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، وقاموا بعمليات تزوير في السجل العقاري، لملكيات بيوت يعيش أصحابها خارج سوريا في واحدة من اكبر عمليات سرقة للعقارات.
محمد بسيكي، علي الابراهيم، كامل أحمد
ينشر بالتزامن مع صحيفة “The Guardian” البريطانية
في قبوٍ رطب مُعتم بلا إنارة، تحت الأرض، تتكدّس مجموعة كبيرة من الأضابير التي تحتوي على وثائق لقضايا رفعتها عائلات سوريّة فقدت منازلها وعقاراتها في العاصمة دمشق وريفها على امتداد السنوات العشر الماضية.
لم تفقد هذه العائلات بيوتها وعقاراتها وجنى عمرها بالعمليات العسكرية والقصف بل بالتزوير، حيث بات لهذه البيوت على الورق وفي الطابو الأخضر (السجلات العقارية) ملّاك وشاغلون غير الملاك الأصليين.
يتفحص عدنان وهو محامٍ سوري (43 عاماً)، الأضابير وهي مصفوفة على أرفف معدنية يغطيها الغبار، في هذا القبو المحكم الإغلاق التابع للقصر العدلي.
يُمضي كغيره من المحامين الذين يترافعون نيابة عن موكليهم داخل البلاد وخارجها، معظم وقته على ضوء هاتفه بسبب انقطاع التيار الكهربائي، يدقق في أوراق الدعاوى والثبوتيات لمعرفة الثغرات التي استغلّها المزورون وتسبّبت بفقدان ملكيات مئات الملّاك الذين اضطرتهم ظروف الحرب للفرار إلى الخارج.
ورغم أن المعارك بين قوات النظام السوري والمعارضة المسلحة أصبحت من الماضي، وانتهت بتمكّن النظام من بسط السيطرة على دمشق وريفها، إلا أن معارك من نوع آخر في مرحلة ما بعد الحرب تدور رحاها بين اللاجئين السوريين في الخارج وبين مزوّري ملكيات العقارات في دمشق وريفها ومناطق أخرى.
يستفيد المزورون من غياب الملاّك الحقيقيين، ومن طول فترات التقاضي في حال وصلت قضايا التزوير الى المحاكم، فضلاً عن كونهم خبراء في تزوير الوثائق ومعهم محامون وكتّاب عدل، وموظفون وأصحاب مكاتب عقارية، وغالباً ما يكون المستفيدون عناصر وموظفين أمنيين أو لهم صلات أمنية أو ضباطاً وعسكريين، منهم منتسبون إلى قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، على ما يكشفه هذا التحقيق الاستقصائي الذي تحالفت عليه “وحدة سراج” ومنظمة “اليوم التالي” في اسطنبول، وصحيفة الغارديان البريطانية، وموقع “درج”.
“هؤلاء هم ركائز عمليات التزوير، ولكل واحد منهم دور في العملية”، يقول محام سوري يراقب هذه الظاهرة عن كثب.
في آب/ أغسطس الماضي، كشف رئيس فرع نقابة المحامين في ريف دمشق، محمد أسامة برهان، في تصريحات صحافية، عن ضبط عدد من المحامين زوّروا الوكالات لبيع العقارات، إضافة إلى تزويرهم الوكالات الشرعية، وخصوصاً لأشخاص يقيمون خارج البلاد. وحول مصير المحامين الذين يقدمون على عمليات التزوير، يشير نقيب المحامين السوريين السابق نزار السكيف، إلى أن عدد المحامين انخفض من 28 ألف محام إلى 25 ألفاً نتيجة فصل عدد كبير منهم لما قاموا به من تصرفات “لا تليق بمهنة المحامين من بينها التزوير”.
وقبل ذلك، اعترفت وزارة العدل السورية بأن عمليات تزوير ملكيات العقارات قد تحوّلت إلى ظاهرة، وطلبت من الكتاب بالعدل التدقيق أكثر في الوكالات التي ترد إليهم.
عضو اللجنة الدستورية السورية القاضي أنور مجني، يشير إلى عوامل عدة ساهمت في انتشار ظاهرة التزوير لسلب الملكيات، من بينها غياب أصحابها عنها (العقارات)، وعدم قدرتهم على الدفاع عن حقوقهم العقارية، إذ أن توكيل محام يحتاج الى موافقة أمنية، وهذا لن يتحقق لمعارضي النظام السوري، كذلك اتساع نطاق الفساد والمحسوبية، بخاصة في ظل تردي الوضع الاقتصادي الذي أوصل الدخل الشهري للموظف الى أقل من 20 دولاراً (150 ألف ليرة سورية).
في دمشق، تعود القضايا التي نجح أصحابها في إيصالها الى المحكمة أملاً باسترداد ملكية بيوتهم، الى الأعوام الممتدة من منتصف آذار/ مارس 2011 لغاية منتصف 2022، إلا أن وتيرة تزوير الملكيات تصاعدت في العامين الماضيين، إذ سجّل القصر العدلي بدمشق وريفها استقبال أكثر من 125 ضحية تزوير، رفعوا دعاوى بعد اكتشافهم تزوير ملكيات بيوتهم، وهم في الخارج خلال النصف الأول من 2022، بحسب إحصائيات المحامي عدنان، وهو ما يعتبره مؤشراً خطيراً على تنامي نفوذ المزوّرين ومن يقف خلفهم.
ويعزو ذلك إلى “سفر أو تهجير أصحاب العقارات أو فقدانهم أو وفاتهم، إضافة الى الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب”.
عمليات التزوير، في غالبيتها، لا تصل الى القضاء، إما لعدم علم أصحابها بما يجري لممتلكاتهم لكونهم خارج البلاد، أو لأنهم لا يستطيعون توكيل محام للدفاع عنهم بسبب عوائق مادية أو أمنية (مثل الحصول على الموافقة الأمنية لتوكيل محام) أو وفاتهم.
من يفقد عقاره بالتزوير ويكون لاجئاً أو نازحاً وليس مطلوباً للنظام السوري لأسباب متعلقة بالثورة أو المعارضة، يضطر فوراً للاستعانة بمحامٍ محلي للبدء بإجراءات استرداده، رغم طول مدة التقاضي التي قد تصل إلى عشر سنوات، أمّا من كان مطلوباً فسيصبح من الصعب عليه استرداد عقاره المسلوب بالتزوير إذا أراد الذهاب الى المحكمة. “لأنه ما من محامٍ يتجرأ على العمل معك خوفاً من الاعتقال أو السجن”. كما حصل مع 5 عائلات سورية فقدت بيوتها وتقيم في تركيا ولبنان ودول أوروبية مثل السويد وفرنسا.
حلم تحوّل إلى كابوس
كان عبدالله (31 عاماً، اسم مستعار)، يبني أمالاً كبيرة للحصول على مبلغ مالي عند بيع المنزل الذي ورثه عن والده، الذي فقد حياته في أقبية المخابرات الجوية، بعد اعتقاله عام 2013، وظهرت صورته بين الصور التي سربها الضابط السوري “قيصر”، سابقاً كما يقول.
تحوّل حلم الشاب إلى كابوس بعدما خسر منزله في مدينة جديدة عرطوز بريف دمشق، بعملية تزوير يصفها بـ”الممنهجة”.
يقول عبدالله الذي يقيم مع عائلته الآن في اسطنبول: “حاولت توكيل محام لمتابعة القضية، لكن جميعهم رفضوا ذلك، كوني من المطلوبين أمنياً بسبب نشاطاتي المعارضة للنظام السوري من جهة، وكون الشخص المدعي من المرتبطين بالفرقة الرابعة من جهة أخرى، فكان الرفض بسبب الخوف من تلفيق تهمة ما للمحامي الموكّل بالدفاع عني”.
وكنتيجة، “سُلب منزلي من جانب أحد أقاربي المرتبطين بميليشيا قوات الغيث التابعة للفرقة الرابعة، عبر رفع دعوى قضائية في محكمة قطنا بريف دمشق منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2018، وأرفق معها عقد بيع مزوراً، مدعياً بأنني بعته البيت عام 2013، وقبضت ثمنه كاملاً”.
كان لظروف الحرب أيضاً دور في انتعاش ظاهرة التزوير بعد فقدان المالكين وثائق إثبات الملكية، إذ “ساهم التدمير والعنف في الصراع السوري في فقدان السجلات والوثائق الرسمية المهمة، بما في ذلك سجلات المحاكم وسندات الملكية وغيرها من الوثائق القانونية”، يقول القاضي أنور مجني.
ويشير إلى “أن نسبة كبيرة من المساكن هي سكن عشوائي، وبالتالي لا ينطبق واقع الملكية على السجلات العقارية، ما يسهل عملية التزوير والاستيلاء على الممتلكات العقارية”.
يعزز هذا الطرح نتائج مسح شمل أكثر من 10 آلاف نازح، قامت به منظمة “اليوم التالي”، كان من نتائجه أن ثلث أولئك الذين نزحوا قسراً من منازلهم خلال النزاع فقط، كانت بحوزتهم وثائق تثبت ملكية عقاراتهم، ما دفع المنظمة الى التعاون مع المحامين والمجتمعات المحلية لمسح أكثر من مليوني وثيقة رسمية – وثلثها سندات ملكية – متعلقة بملكيات اللاجئين والنازحين.
فساد يسهّل التزوير
يتزامن هذا مع استمرار النظام السوري باستصدار القوانين المثيرة للجدل المتعلقة بالملكيات، كالقانون رقم 10 الذي يسمح بإقامة مناطق للتطوير العمراني في المناطق التي شهدت تهجيراً للسكان الأصليين كمناطق القابون والغوطة الشرقية لدمشق وغيرها، والقانون رقم 3 لإزالة أنقاض البيوت المدمرة، والتي تحمل في طياتها موجات من انتهاكات حقوق الملكية الموجهة ضد اللاجئين غير القادرين على إثبات ملكيتهم، وفق منظمات حقوقية.
لم تكن خسارة الطبيبة السورية، إيمان، ( 35 عاماً، اسم مستعار لأسباب أمنية) منزلها في ضاحية قدسيا بمحيط دمشق، كغيرها من السوريين ممن فقدوا منازلهم في الغارات الجوية والعمليات العسكرية على مدنهم وقراهم بل بعملية تزوير ممنهجة.
اشترت السيدة منزلها في نهاية 2016، بقيمة 400 مليون ليرة سورية (100 ألف دولار أميركي)، وتم تسجيله باسمها، وعملت على تأجيره بسبب رغبتها في السفر.
بعد خمسة أشهر، انتقلت للعيش في اسطنبول مع زوجها الملاحق والمطلوب للخدمة العسكرية.
تروي السيدة كيف عادت إلى سوريا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، لزيارة عائلتها وللاطلاع على منزلها، لتكتشف أنّ المستأجر بات يملك منزلها ولديه إثبات ملكية باسمه.
تقول وعلامات الذهول بادية على وجهها: “عندما طلبت منه إفراغ المنزل لأنني أريد تأجيره لمستأجر آخر، أشهر في وجهي قراراً من المحكمة بأن البيت أصبح له (ملكه)”.
وتضيف: “لقد صدمني… قال لي: أنت بعتِ لي البيت بناء على وكالة من اسطنبول باسمك”.
ورغم تأكيد إيمان المتكرر أن المستأجر استصدر وكالة مزورة باسمها، وأنها لم تزر القنصلية السورية في اسطنبول، أوضحت أن الوكالة التي أبرزها المزوّر كانت مصدّقة ورسمية، ما يعني أن عملية البيع قطعية لا رجعة فيها، بحسب ما قالت لفريق التحقيق.
تقول: “المستأجر الذي زوّر ملكية بيتي يعمل موظفاً مدنياً في إحدى شعب التجنيد بدمشق ولديه علاقات قوية ومعارف في مجال العقارات والأمن… أصبح الآن يعمل في التزوير”.
لليوم، لا تزال سوريا واحدة من أضخم أزمات النزوح في العالم، حتى آذار/ مارس 2022، إذ اضطر أكثر من 13 مليون شخص إما للفرار خارج البلاد أو النزوح داخل حدودها، وذلك بحسب إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR.
تهديد بقوة السلاح!
تعد مناطق جديدة عرطوز ومنطقة الديماس والمزة والغوطة الشرقية مناطق سيطرة ونفوذ لقوات الفرقة الرابعة، عبر لجنة أمنية تقودها أعلى رتبة عسكرية أو أمنية في المنطقة.
عائلات سورية قابلها فريق التحقيق، كشفت عن تورط ضباط وعناصر في ميليشيات يعملون لصالح الفرقة الرابعة، زوّروا ملكيات بيوتها وسجّلوها بأسمائهم. كحال الخمسيني، أبو حسان (59 عام)، الذي فقد ملكية منزله (140 متراً مربعاً) في منطقة “جديدة الوادي”، وهي بلدة سورية تبعد من مركز مدينة دمشق 15 كم، وهي أحد مصايف وأماكن التنزه والسياحة في ريف دمشق المشهورة.
كان الرجل يملك معمل مفروشات واشترى منزلاً عام 2010 ودفع ثمنه بالكامل (100 ألف دولار أميركي)، من خلال عقد بيع وشراء لم يثبت في الطابو في محاكم ريف دمشق العقارية.
انتقل للعيش في المنزل وبقي فيه حتى العام 2012، إلا أنه وبسبب المعارك والقصف الذي شهدته المنطقة، لجأ مع عائلته إلى إسطنبول في تركيا في 2014. يقول: “بعد شراء المنزل من الورثة، لم أتمكن من تثبيته في السجل العقاري، لذلك لا أملك ورقة تمليك طابو أخضر. تمت عملية الشراء بعقد بيع قطعي. ثم أجّرتُ المنزل لمدة ثلاث سنوات لعائلة، إلا أنني اكتشفت حديثاً أن من يسكن المنزل ضابط في الفرقة الرابعة برتبة رائد وينحدر من مدينة حمص، وقد تم ذلك من دون موافقتي ومن دون علمي بكيفية دخوله المنزل وسكنه”.
ويضيف: “هدد الضابط الشخص الذي باعني المنزل بقوة السلاح، وأجبره على تسجيل منزلي باسمه وفراغ المحضر كاملاً”.
يربط المحامي عبد الناصر حوشان، وهوعضو تجمع للمحامين السوريين من حماة، عمليات التزوير بشبكات وأفراد مرتبطين بالفرقة الرابعة، كونها الذراع الاقتصادي والأمني والبوابة للاستيلاء على كثير من المشاريع الاقتصادية.
يقول جوزيف ضاهر، الأستاذ في معهد الجامعة الأوروبية: “هناك ديناميكيات مختلفة للاستفادة من حالة الفوضى خلال الحرب، وظاهرة الاستيلاء على العقارات مستمرة لأن العقارات مصدر رئيسي لتراكم الثروات لكثير من الميليشيات ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام، هؤلاء يستفيدون من غياب الكثير من السوريين الذين تركوا بيوتهم والآن هم غير قادرين على العودة لأسباب سياسية”.
تزوير هوية الضحايا!
يستغلّ المزوّرون غياب أصحاب العقارات عن ممتلكاتهم سواء بسبب السفر أو الوفاة، هنا تبدأ الخطوة الأولى في رحلة تزوير الملكية والاستيلاء.
تُظهر محاضر دعاوى لاسترداد ملكيات بيوت اطلع عليها فريق التحقيق، تفاصيل عمليات التزوير والطرق المتبعة، سواء من خلال استخدام أختام مزورة للكاتب بالعدل أو من خلال تزوير بيانات الهوية الشخصية، حيث تقوم شبكات التزوير بتزوير هوية أو سند إقامة يحمل معلومات صاحب العقار المستهدف، ومن ثم نقل الملكية.
بهذه الطريقة، تمكّنت شبكة مزوّرين في منطقة صحنايا بريف دمشق من بيع عقار العام 2015 لشخص آخر، مستغلة غياب المالك الأصلي خارج سوريا، وبعد استصدار سند إقامة مزوّر باسمها، بحسب أوراق الدعوى القضائية.
يؤكد المحامي حوشان أن عمليات التزوير في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، تتم من خلال أصحاب النفوذ والسطوة العسكرية والأمنية، وأنه “تم الكشف عن أكثر من 20 شبكة في حماة وحلب ودمشق واللاذقية، تتراوح أعداد كل شبكة ما بين 40 إلى 50 شخصاً”.
تواصل فريق التحقيق مع وزارة العدل والحكومة السورية للحصول على حق الرد، لكنهم لم يردوا على الاستفسارات الموجّهة إليهم.
أشهر حالات تزوير الملكيات
تقوم شبكة التزوير بتغيير اسم المالك في السجل العقاري، ومن ثم يتم تغيير اسم المالك الحقيقي، وبعدها يتم استخراج بيان قيد عقاري أو سند تمليك، وبذلك تتمكن شبكة التزوير من إجراء عملية البيع. يمكن أن يتم التزوير باستخدام نقل الأختام الموجودة في وكالة نظامية إلى الوكالة المزوّرة عن طريق سكانر Scanner.
قد ينظّم المحامي عقد بيع بين شخصين على أساس أنهما مالك ومشترٍ، وتُرفع دعوى (تثبيت البيع) أمام قاضٍ، بعدها يتم تسجيل دعوى تثبيت البيع بين (وكيل البائع والمشتري)، وبناء على عقود مزورة، يتم تنفيذ الحكم القضائي لصالح الشاري (المزوَر).
استخدام أختام مزورة للكاتب بالعدل أو تزوير بيانات الهوية الشخصية، حيث تقوم شبكات التزوير بتزوير هوية أو سند إقامة يحمل معلومات صاحب العقار المستهدف، وصورة أحد عناصر شبكة التزوير، ويتم بناء وكالة على أساسها، ومن ثم نقل الملكية.
يُعتبر “سند الملكية”، المتحصّل عليه بناء على تسجيل العقار باسم المالك في السجل العقاري الحكومي، أقوى وثيقة إثبات في سوريا. هناك أيضاً وثائق إثبات أخرى رسمية، تأتي في الدرجة الثانية، منها سند بيع العقار مع توكيل غير قابل للعزل، وهو أقوى السندات، إذ يلزم البائع والمشتري بالحضور إلى السجل العقاري. وفي حال عدم حضور البائع، يلزم المشتري برفع دعوى على البائع في المحكمة ليثبت من خلالها دفعه ثمن العقار وملكيته له”
ملاّك آخرون وتغيير ديموغرافي
يعرّف قانون العقوبات العام حسب المادة 443 التزوير، بأنه تحريف مفتعل للحقيقة في الوقائع والبيانات التي يريد إثباتها بصك أو مخطوط يحتج بهما، يمكن أن ينجم عنهما ضرر مادي أو معنوي أو اجتماعي. على أن يعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة خمس سنوات على الأقل، الموظف الذي يرتكب تزويراً مادياً وفق المادة 445 من القانون ذاته.
يحدث تزوير الملكيات، فيما أصبح ملاّك آخرون على المقلب الآخر ضحية نوع آخر من انتهاكات حقوق الملكية، تعرف بـ”غصب العقار” من جانب شبكات تستهدف بالدرجة الأولى، منازل وعقارات اللاجئين أو المطلوبين بقضايا أمنية تتعلق بـ “محكمة الإرهاب”، مستغلين غياب أقارب أصحاب العقارات ووكلائهم، لا سيما المناطق التي خضعت لعمليات التسوية الأمنية واتفاقيات التهجير القسري، في ظل عجزهم عن توكيل محام يتولى الدفاع عنهم أو استرداد ملكيتهم كونهم من المطلوبين للأفرع الأمنية.
اعتبر قانون العقوبات السوري أن أي استيلاء آخر على الملكية الخاصة للعقارات يعتبر غصباً. وغصب العقار هو الاستيلاء على ملك الغير من دون رضاه، أو وضع اليد على ملك الغير من دون توافر سند قانوني بالملكية أو وجود سبب مشروع.
واعتبرت المادتان 723 و 724 من قانون العقوبات، أن عقوبة جريمة غصب العقار، هي الحبس حتى 6 أشهر لمن لا يحمل سنداً بالملكية أو التصرف واستولى على عقار أو قسم من عقار. وتتضاعف العقوبة حتى سنة إذا رافق الجرم تهديد أو جبر على الأشخاص. بينما يعاقب القانون بالحبس حتى 3 سنوات إذا ارتكبت ذلك جماعة مؤلفة من شخصين مسلّحين على الأقل.
في مقابلات مع عائلات سورية لاجئة في فرنسا والسويد، أكدت جميعها استيلاء غرباء على بيوتها كحال بناء عائلة أبو فارس الهنداوي وأخوته من حي الخالدية في حمص.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، تعرض منزل أبو فارس الهنداوي في حمص لاقتحام من قوات الأمن السوري على خلفية مشاركته في التظاهرات التي شهدتها مدينة حمص وسط سوريا والمطالبة بإسقاط النظام السوري، آنذاك تم اعتقال أخوته، وتعرضت والدته بالضرب بشكل مباشر على الرأس والعين من سلاح العناصر المقتحمين. توفيت والدته في لبنان بعد سنة بسبب تهتّك الشرايين إثر جلطة دماغية العام 2015.
بعد الاعتقال، قرر أبو فارس وأخوته مع عائلاتهم الخروج من سوريا وترك البناء المكون من ثلاثة طوابق، والذي يضم سبع شقق سكنية ويمتد على مساحة 189 متراً مربعاً في حي الخالدية الحمصي الشهير، معقل الاحتجاجات المناهضة للنظام السوري مع بداية الثورة.
اختار أبو فارس الذي بذل قبل لجوئه كل ما يملك لبناء منزله، الذهاب الى الأردن عبر الصحراء في نيسان/ أبريل 2013، ودخل إلى مخيم الزعتري قبل أن يقدم ملفه لمفوضية اللاجئين ويصل إلى فرنسا العام 2015.
يقول أبو فارس: “خلال السنوات الماضية، لم يكن لدينا قرار بالعودة إلى سوريا، وهو ما دفعنا الى التفكير ببيع البناء كاملاً وتقاسم المبلغ مع أخوتي، إلا أننا في العام 2016 اكتشفنا أن أشخاصاً يسكنون البناء من منطقة نبل والزهراء وصلوا الى المنطقة واستولوا على بيتنا”.
علِم الرجل من أحد الجيران أنّ الشاغلين الجدد بحوزتهم ورقة (إثبات) من المختار تشير إلى أنهم سكان البناء الجد. ويضيف: “تم تسهيل غصبهم عقار العائلة كاملاً بتسهيل من مختار الحي”.
رم غصب العقار
يقيم يوسف (41 عاماً)، في العاصمة السويدية ستوكهولم منذ ثماني سنوات. جاء الرجل لاجئاً بعدما ترك منزله في مخيم اليرموك جنوب دمشق.
في نهاية آذار/ مارس 2013، استولت كما يقول، “عناصر من الفرقة الرابعة، عبر ضابط أمني مسؤول عن الحي، على مجموعة شقق سكنية تقع وسط المخيم، والسبب تهمة تمويل الإرهاب بحسب الدعوى القضائية ضده”، كما تشير الوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق.
بعدها وبحلول نهاية العام، فرّ الرجل من سوريا تاركاً خلفه ثلاثة أبنية طابقية مكونة من 12 شقة سكنية، تبلغ مساحة كل واحدة منها 110 أمتار مربعة، ومكتب لشراء العقارات وبيعها.
أطلعنا الرجل على وثائق الملكية وصور وأدلة تشير إلى حجز ممتلكاته ووضع اليد عليها عبر وثائق عليها أختام رسمية حكومية واسم ضابط في أجهزة المخابرات الجوية، عقب تقارير مرفوعة بحقه في الفروع الأمنية.
في بداية الأمر، كان من الصعب عليّ معرفة خلفيات ذلك، إلا أنني وبعد التواصل مع وسيط لاستعادة ممتلكاتي، تشكلت لدي معلومات كاملة” كما يقول.
وأكثر ما يخيفه هو نقل ملكية هذه العقارات عبر عمليات التزوير، بخاصة أنه غير قادر على بيع أو تأجير أو توريث هذه العقارات، حيث أمضى أكثر من عام بين المحاكم والدوائر العقارية لاسترجاع منزله عبر محاميه لكن من دون جدوى، إلى أن أوصل له سمسار خبراً مفاده أنه “يمكن أن تعود لك بعض العقارات إن دفعت مبلغ 50 ألف دولار أميركي لصالح جمعية أهلية ترعى الجرحى التابعين للجيش وللفرقة الرابعة”. وهو ما رفضه على حد قوله.
“جرم غصب العقار” ينطبق توصيفه على حالة يوسف، لكن ما يزيد حالته تعقيداً “وجوده خارج سوريا وكونه لا يستطيع الدفاع عن حقوقه، وأسباب تتعلق بالشخص الغاصب للعقار في حال كان ينتمي لجهة عسكرية أو أمنية”.
وبين حلمه بالعودة إلى حمص علّه يسترد ملكية بيته، وحلمه الأكبر بالعودة إلى سورية مع كل اللاجئين، يصمُت أبو فارس قليلاً، ثم يقول: “هم واثقون بأننا لسنا عائدين إلى سوريا. بيتنا ذهب وليس لديّ أمل في أن يعود. أنا الآن يائس، وأيقنت أنه ما من أي محاسبة في سورية. أنا الآن أهتم بأولادي فقط”.
في منتصف 2019، أصدر القاضي المسؤول عن قضية الشاب عبدالله، قراراً يقضي بتسجيل ملكية المنزل للشخص المدعي، نظراً الى عدم حضور عبدالله جلسة المحكمة، واستناداً إلى شهادة الشهود المدرجة أسماؤهم في عقد البيع المزور، كما يقول.
لم تكتفي المحكمة بإصدار حكم تسجيل البيع بتاريخ 14 أيار/ مايو 2019، بل وجهت الى عبدالله حكماً غيابياً بالسجن 6 أشهر بتهمة النصب والاحتيال حسب ما علم ذووه من مختار الحي، وبحسب مضمون الدعوى المرفقة بدعوى تثبيت البيع، وحمّلته ضرائب البناء وتكاليف الدعوتين منذ عام 2013 وحتى تاريخ تسجيل البيع عام 2019.
ملاحظة:
شارك في إنتاج التحقيق أيمن مكية وأحمد عبيد من اسطنبول، ونُشرت النسخة الإنكليزية في صحيفة الغارديان البريطانية، ونُشرت النسخة العربية على موقع “درج ميديا“