-
غب شهراً وعد...هكذا بدأت رحلة لجوئي
-
الجزء الأول
أحمد القصير - صحفي سوري
لم يكن عام 2011 كما قبله أبداً، كان عاماً مختلفاً ترك بصمته عميقاً في حياتنا جميعاً.
في هذا العام تغيرت مواقفنا، وتغيرت نظرتنا للحياة، والواقع الذي كنا نعيشه، وحتى غير نطرتنا لأشخاص مقربين لنا، فلم يعد بعد ذلك العام يجمعنا معهم شيء.
في أذار 2011 كانت البداية ... تحولت جذرياً من شخص يعشق الرياضة وأخبارها ويتابعها في كل لحظة، ليمازحني والدي دائماً بأنني أعرف لاعبي كرة القدم من أقدامهم... لأتحول من ذاك الشخص الذي يعتبر متابعة نشرات الأخبار عقوبة، ولا يعنيه شيء من السياسة، إلى شخص بات همه الوحيد ملاحقة الأحداث ونقلها وإيصالها.
عندما بدأ الحراك الثوري في منطقتي (القصير) ومحيطها، لم يكن مسموحاً لوسائل الإعلام بالتغطية، وكان إعلام النظام فقط هو من ينقل الأخبار على هواه كما عهدتموه جميعكم، فوجدت نفسي أحمل جهازي المحمول لأصور وأكتب وأنقل كل ما يحصل لأي وسيلة إعلام ممكنة، إحساساً مني بالمسؤولية تجاه ما نتعرض له من كذب وتضليل، الأمر الذي سبب لي ملاحقات أمنية أجبرتني على ترك منزلي، وعائلتي منذ ذلك الحين، وأصبحت مشرداً بين بيوت الأصدقاء حيناً وفي بساتين المنطقة حيناً آخر، حتى إن أردت أن أرى عائلتي؛ أراهم في الطرقات البعيدة، أو في منازل متطرفة وفي منازل الأصدقاء و لوقت قصير جداً.
في بعض الأحيان كنت أخاطر في دخول منزلي مع آذان الفجر فقط لألقي نظرة على جميع أفراد عائلتي وهم نيام وأرحل.
فرض الواقع الجديد نظامه علي، في التنقل والتحرك حتى في أبسط الامور الحياتية، و خاصة بعد أول مداهمة لمنزل ذويي، و واعتقال أخي الوحيد وهو بعمر 16 عام، استمر اعتقاله لأسبوع في فرع الأمن السياسي في حمص.
لم يطل الأمر حتى بدأت تتسارع الأحداث في سوريا وكثرت مداهمة منزلي ومضايقات عائلتي فاضطررت للابتعاد نهائياً عن أفراد أسرتي، وبقيت أخشى الاعتقال في أي لحظة حتى وأنا نائم، ففي مرات كثيرة وعند انقطاع التيار الكهربائي ليلاً، كنت اخرج إلى سطح المنزل الذي أضيف عنده، وأجلس على سطح المنزل لأنام جالساً خوفاً من اي مداهمة ليلية فأكون مستعداً للهرب في أي لحظة.
في آب 2011 كانت المداهمة الثانية لمدينتي القصير، و كنت يومها في منزل صديق لي – هو أيضاً لم يسلم بعد زمن من الاعتقال بسبب معرفته بي- كنت نائماً قرابة الساعة 11 صباحاً ففتح شباك الغرفة فجأة ليخبرني أحد أقرباء صديقي ويخبرني أن المخابرات الجوية أصبحت في أول الحي الذي يبلغ طوله قرابة 1 كم.
خرجت مسرعاً، دون وعي، وكأنه حلم، وانطلقت على دراجة نارية لا أدري إلى أين يجب أن ألتجئ، وصلت إلى مكان قرب نهر العاصي يجتمع فيه العديد من الاصدقاء وأفراد من حي صديقي هاربين من مداهمات المخابرات الجوية جلست إلى جانب " أبو طارق " على حافة العاصي و بدأ اغلب الموجودين في متابعة الاتصالات لمعرفة تحركات المداهمات، وأين أصبحت وفي أي الأحياء، لكن بعد ساعات لا أدري ماذا أصابني، قلبي بدأ يرتجف بقوة وأصبحت أريد العودة لداخل المدينة لكن الرفاق منعوني من المغادرة، فأجلس لدقائق ثم أقف من جديد أريد العودة للمدينة، إلى أن جاءني اتصالاً هاتفيا من صديقي الشهيد المهندس يثرب الزهوري -صديق الثورة و ما قبلها- يريد الاطمئنان علي إن كنت بخير، وقال لي أن المخابرات الجوية خرجت من داخل المدينة وأصبح الوضع آمن، لم ينته من كلمته حتى كنت على دراجتي النارية "التي كان التنقل بها أسهل في الأيام الأولى " واتجهت نحو المدينة و تحديداً إلى منزل صديقي الذي كنت أنام فيه ...عند وصولي للحي شاهدتني إحدى الجارات، نظرت إلي باستغراب وقالت " يه ليش ما اعتقلوك "... قلت لها: لا... فقالت الكل يقولون أنه تم اعتقالك... هنا زاد خوفي وبدأ عقلي يتجه نحو أخي وهو الذي لم يمض على خروجه من الاعتقال والذي كان بسببي عشرين يوما، لكن الأسوأ أن الاعتقال هذه المرة طال أبي وزوجتي، اللذين ما إن سمعا خبر المداهمة حتى أتوا لمنزل صديقي للاطمئنان علي، لكن فرقة المداهمة كانت ماتزال في الحي فأخذت والدي وزوجتي وصادرت سيارة أبي.
كان عمر أبي حينها "61" عام، أوقفت زوجتي لساعتين وبعدها أطلق سراحها لكنهم احتفظوا بوالدي، هنا بدأت أتواصل مع معارفنا بغية إخراج والدي من الاحتجاز قبل تحويله من فرع المدينة الى الفرع في حمص، فقد كان ما يزال محتجزاً في مقر مفرزة الأمن العسكري في القصير، خلال ساعتين أو ثلاث من الاحتجاز تعرض والدي لضرب مبرح وشتائم لا أتمنى أن يسمعها أي إنسان على وجه الأرض، لحين وصول ضابط من أقاربنا في الجيش -انشق في ما بعد – واستطاع إخراج أبي قبل تحويله إلى الفرع بدقائق بالطبع مع دفع رشوة محترمة بلغت ما يقارب خمسين ألف ليرة وكانت بوقتها تساوي ما قيمته "ألف دولار".
انتظرت الصباح ببالغ الصير كي أذهب إلى سوق المدينة لأطمئن على والدي في محله الذي يملكه هناك، وبالفعل وصلت إليه متخفياً مع أحد الأصدقاء، وصلت لباب المحل ووقفت...وقلت له ممازحاً "ان شاء الله عجبوك هالكفين الي أكلتهم بسببي " فنظر الي وخرج مسرعاً باتجاهي لم الحظ يومها سوى الدموع في عينيه .... قتلتني هذه الدموع.
عانقته طويلاً وقبلته، فنظر إلي وهو يمسك وجهي وقال: " يا أبي أنا انضربت وانهنت بسببك، وقبلان... لكن أنت إذا رح يمسكوك رح يفرموك و قالولي ياها أكتر من مرة يا ابي....برضاي خفف".
قلت له: " كيف أخفف، أنا وأنت نعلم جيداً أن ما أقوم به هو أقل واجب تجاه بلدي واخوتي وانت مقتنع معي بضرورة ما أقوم به فكيف تريدني أن أخفف".
نظر إلي نظرة طويلة وقال: " الله يحميك ويرضى عليك ، لكن لي طلب صغير منك أرجوك تغيب شهر لينسوك شوي و ارجع بعدها كرمالنا انا واهلك وعيلتك ... روح على لبنان شهر ... بعدين ارجع وبيكونوا نسيوك".
بعد الحاح طويل منه، وافقت على طلبه، وبالفعل حزمت أمور وغادرت على أني عائداً بعد شهر وهكذا دخلت لبنان بتاريخ 16 - 09 -2011.
لم أدخل لبنان عبر الامانة السورية، لكني سلكت طريق آخر إلى الأمانة اللبنانية مباشرة، و كان لجوئي الأول الذي استمر حتى شهر 12 عام 2012 دخلت خلال هذه الفترة اكثر من أربع مرات إلى سوريا، مع عدد من الصحفيين والأطباء و احياناً كنت أحدث والدي من هاتفي من البساتين التابعة لمدينتي ( القصير) فيقول لي أين أنت؟ انتبه في مشاكل... حاول ما تجي... فأرد لأطمئنه بأنني بعيد ومازلت في لبنان لكن خطي السوري مازال يعمل كوني في منطقة قريبة من الحدود....و هو لا يعلم أنني في بعض الاحيان أكون بعيداً عنه فقط خمسمائة متر لا أكثر.
عدت في عام 2012 بعد اعتقال والدتي لمدة تجاوزت الشهرين كرهينة، مقابل أن اسلم نفسي ليتم اخلاء سبيلها، لكن والدتي أرسلت لي رسالة شفهية مفادها بألا آتي و طمأنتني بأنها ستخرج بعد أيام.
عدت لسوريا مشياً على الأقدام احمل أحد الجرحى على كتفي في رحلة استمرت ما يقارب الخمس ساعات سيراً للوصل إلى القلمون ومن ثم برحلة أخرى إلى القصير بعد ايام على اصابة ابي من قناص في ساقيه.