-
عيد ميلادي الألماني .....
07 - 11 - 2020
سمير مطر "رئيس رابطة الصحفيين السوريين" - خاص immigrants now - المهاجرون الآن - قصصكم
يعتبر الثالث من تشرين الثاني يوما مفصليا في حياتي، في مثل هذا اليوم من عام 1990 غادرت بلدي الأم سوريا وانتقلت للعيش في ألمانيا. كنت أعرف منذ البداية أنني لن أستطيع العودة قريبا إلى بلدي للأسف. عندما خرجت من هناك قبل ثلاثين سنة كنت فرحا جدا، ولكن لماذا؟ كيف يفرح شخص يغادر وطنه؟ ويفرح عندما يفارق أهله الذين يحبهم ويحبونه ويغادر أصدقاءه الذين سيشتاق إليهم وسيحن إلى المكان المرتبط بذكريات جميلة؟ لم أعثر على جواب مقنع تماما لما حدث في ذلك الحين. لكنني كنت فرحا لأنني استطعت الهروب من سجن كبير تخيم عليه أجهزة كثيرة من المخابرات والأفرع الحزبية، تسيطر من خلال رعب تنشره في كل زاوية وشارع بل وفي كل بيت، أجهزة أمنية لم يكن هدفها حماية البلد من أي عدوان خارجي بل كان هدفها يكمن في حماية مصالح فئة متسلطة على كل مقدرات البلد المادية والبشرية ولذا حاربت هذه الأجهزة كل من يشير بإصبعه إلى أماكن الفساد المستشري في كل مؤسسة حكومية وغير حكومية. كنت أعرف إن بقيت هناك سأنتقل من السجن الكبير أي بلدي الأم إلى سجن صغير دخل إليه الآلاف من قبلي وخرجوا منه إما مرضى أو موتى أو محملين بذكريات قاسية وبعضهم لم يخرج حتى الآن. كم فقدنا أشخاصا أحباء لنا كان هدفهم تغيير أحوال البلد نحو الأفضل لما فيه المصلحة العامة فكانت غلطتهم الكبيرة انتقادهم لمسؤولين متنفذين، وبدل أن يقدم لهم الطاغية الشكر كونهم كشفوا عما يعيق تقدم البلد عاقبهم بالزج بهم في أقبية سجونه.
عندما وصلت إلى ألمانيا واجهتني تحديات كثيرة أهمها اللغة والاختلاف الكبير في العلاقات الاجتماعية إضافة إلى الحنين إلى أهلي وأصدقائي وفي ذلك الحين لم يكن الاتصال متاحا مثلما هو الحال اليوم ولا حتى هاتفيا لأن أهلي لم يكن لديهم هاتف في البيت. انكببت على تعلم اللغة الألمانية بشكل مكثف واستطعت اتقانها خلال أشهر والسبب في ذلك لا يعود إلى ذكائي الخارق بل يعود في الدرجة الأولى إلى قوة إرادتي وإصراري على مواجهة التحديات الكثيرة وخاصة أن المبلغ الذي أعطاني إياه أحد إخوتي وكان من مدخراته قد باشر على النفاذ ولم تكن في ذلك الحين لا مساعدات تقدم للقادمين الجدد أو دورات لغة مجانية ولم يكن أهلي بقادرين على مساعدتي ماديا، وزاد من معاناتي في البداية انتهاء صلاحية جواز سفري ورفض السفارة السورية في ألمانيا تمديده كوني لم أؤد الخدمة العسكرية. إرادتي وإصراري على الكفاح من أجل حقي في البقاء في ألمانيا وعدم العودة إلى ذاك السجن الكبير هو ما أنقذني وفي الوقت نفسه جاء بريق أمل من أصدقاء ألمان وسوريين دعموني فساعدتني لغتي الألمانية كثيرا فبدأت أقرأ الصحف والمجلات الألمانية وهكذا بدأت أتعرف على ثقافة ولغة جديدتين، ولكن هذه المعرفة الجديدة سببت لي أيضا مشاكل كثيرة لأن قسما كبيرا منها كان يتعارض مع ما كنت أحمل من معتقدات وتصورات.
لم أكن أعلم أن مئات الآلاف من السوريين سيلحقون بي إلى ألمانيا البلد الذي احتضنني رغم بعض مساوئه والتحديات الكثيرة فيها وأن بعضا منهم سيهجر إلى بلاد أخرى أو مناطق غير مناطقهم. يقول لي أصدقائي الألمان إن حدسك قبل أكثر من عشرين عاما هو الذي ألهمك بالرحيل من بلدك رغم قساوة الهجرة، لأنك لو لم تفعل ذلك ستكون واحدا من هؤلاء المهجرين والنازحين.
في ألمانيا تعرفت على آلاف الناس، ألمان وسوريين وعرب وأفارقة ولاتينيين وآسيويين وأوروبيين معظمهم كانوا طيبين، تعرفت على معتنقي كافة الأديان السماوية وعلى آخرين لا يؤمنون بإله أو بمجرة أو بعضهم لاأدريون وهناك من يؤمن بقوى الطبيعة وعودة الروح وكل واحد مقتنع بما يعتقد، أجمل السنين إثارة كانت سنين الجامعة فهناك تعرفت على صديقي أنطونيو من الموزمبيق، ذاك الأسود الجميل الذي كان يتعرض كثيرا إلى اعتداءات عنصرية من ألمان وحتى أيضا من عرب، أمر كان يؤلمني كثيرا. كم أذهلتني قصص صديقتي مارتا اللاتينية القادمة من المكسيك عن الاحتفال في بلدها الأم بجنازة قريب عبر الرقص وعزف الموسيقى. في أيام الجامعة كانت تلتقي 10 جنسيات على طاولة واحدة وستة أديان وثلاثة أنواع من الإلحاد، هذا الاختلاط أثر كثيرا في حياتي وتغيرت مواقف كثيرة لدي ولا تزال تتغير، خلال الثلاثين عاما التي قضيتها هنا تأكدت من أن الكثير في حياتنا نسبي، اكتشفت أن اللغة الأم هي أمر نسبي ومكان الولادة أيضا والمنطقة التي ترعرعت فيها في طفولتي نسبية كذلك والثقافة نسبية والبلد الذي جئت منه لا يختلف عن سابقيه واكتشفت أن الاختلاف إثراء وأن الدين مسألة شخصية لا أكثر ويجب أن تبقى كذلك. ساعدني كثيرون خلال حياتي وساعدت البعض. زرت سوريا سبع مرات فقط خلال الثلاثين سنة الماضية، ولم أكن أبقي هناك أكثر من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في كل زيارة وكان شعوري يتجدد كما لو أني غادرت وطني الأصلي في أول مرة.
تعلمت من ألمانيا أن الإنسان هو الأساس واحترام حقوقه مهما كان دينه ولون بشرته وجنسه هو أهم شيء في حياتي وتعلمت أن الحرية الشخصية وتقرير المصير وحرية الرأي والمعتقد من أهم الحريات التي يجب أن أدافع عنها أو أناضل من أجل الحصول عليها، وهي ليست مسلمات لا هنا ولا في أي مكان آخر.