-
سرق لوحة من متحف ألماني وعلقها في منزل عائلة ذات أصول مهاجرة
غيثاء الشعار
"هناك لمسة إجرامية في الفن" هذا عنوان عمل فني للفنان الألماني ( Frank Uwe Laysiepen) الملقب ب أولاي، الذي ولد في العام 1943 في برلين الغربية.
درس التصوير بين عامي 1962 _ 1968 ومن ثم بدأ مسيرته المهنية من خلال التصوير الفوتوغرافي والعروض التي تتحدى التصنيفات الاجتماعية والجندرية. لاحقاً وفي بداية السبعينيات ترك ألمانيا وانتقل الى أمستردام ليبدأ هناك تجربة جديدة مع فنانة الأداء الصربية مارينا أبراموفيتش والتي أطلق عليها فيما بعد (جدة فن الأداء)، والتي كانت شريكته في الفن، لفترة طويلة. قضوا سنوات في رحلة مشتركة داخل سيارتهم، يقدمون سوياً عروضاً فنية ناجحة. وصفت الأعمال التي يقدمونها بأنها "حية، مجهدة، وأحدثت معاييرها المفاهيمية وكثافتها الجسدية ثورة في تاريخ فن الأداء". انفصل الثنائي بعد أن سارا باتجاه بعضهما مسافة 2500 متر ليلتقيا ويفترقا عند سور الصين، ويعودان كلٌّ منهما بطريقه الخاص، ما جعلهما يعتبران هذه التجربة عملاً فنياً وأسمياه "العشاق". ومع ذلك، التقيا مرة أخرى في عرض فني لمارينا في متحف الفن الحديث في نيويورك، حيث جلس أولاي أمامها وتأثرت مارينا وصافحته وبكت.
قصة سرقة اللوحة:
بهدف التشكيك بقوة هياكل السلطة الألمانية ولأن "الهوية الوطنية والفخر الوطني كلاهما وهم وخداع"، لا بد للفن أن لا يفوت فرصة تحفيز الفكر والتغيير برأي أولاي، لذلك قرر تحفيز الناس على التفكير من خلال سرقة لوحة "الشاعر الفقير" التي يعتز بها الألمان كثيراً والذهاب بها إلى حي كرويتسبيرغ في برلين وتعليقها في منزل عائلة تركية مهاجرة، وكل هذا موثق بالفيديو.
في 12 ديسمبر 1976، نفذ أولاي عملية سرقة اللوحة، والتي جرت تماماً وفقاً للخطة، ويظهر ذلك في لقطات الفيلم الباقية بالأبيض والأسود.
بدأت العملية "الفنية" عند مدخل جامعة برلين السابقة للفنون (التي تعرف اليوم بجامعة برلين للفنون)، حيث علق أولاي نسخة كبيرة الحجم من لوحة "الشاعر الفقير" للفنان الألماني كارل شبيتزفيغ رسمها في 1839، ثم قاد أولاي شاحنته وتبعتها سيارة أخرى قام منها يورج شميت رييتوين بتصوير أولاي. وأخذت مارينا أبراموفيتش رفيقة أولاي في ذلك الوقت وشريكته الفنية بتصوير لقطات أخرى لأولاي من داخل المتحف أثناء استيلائه على اللوحة من الجدار وخروجه من خلال مخرج الطوارئ، وخلفه ضباط أمن المتحف. ثم قاد أولاي سيارته إلى كوتبوسر تور، حيث ترك شاحنته وسار عبر كرويسبيرغ مع اللوحة.
علّق أولاي أيضاً نسخة أخرى من اللوحة أمام مبنى بيت الفنانين (Bethanien ) في منطقة مارينن بلاتس في اشارة احتجاج إلى العلاقة بين المؤسسات الثلاث السائدة في نظام الفن: استوديوهات الفنانين (في Künstlerhaus Bethanien)، ومدرسة الفنون (جامعة الفنون) ومتحف الفن الحديث (Neue Nationalgalerie).
دخل أولاي إلى (كشك) هاتف عمومي، واتصل برقم المتحف وطلب التحدث إلى المدير للإبلاغ عن سرقته، ثم توجه إلى شقة عائلة تركية مهاجرة في شارع موسكاوير، و توجهت الكاميرا نحو غرفة المعيشة المغطاة بورق الجدران، حيث تبتسم ربة المنزل برفقة أطفالها الثلاثة للكاميرا وهي تشاهد أولاي وهو يستبدل صورة مؤطرة من الحائط بلوحة شبيتزفيغ لإكمال "عمله الفني".
تساءلت صحيفة ثقافة الفنون المتنوعة في برلين، لماذا شعر أولاي بأنه مجبر على سرقة لوحة كارل سبيتزويج "الشاعر الفقير" وتعليقها في شقة عائلة مهاجرة تركية؟ وكيف يمكن لعمل فني أن ينشأ من سرقة فنية؟
بالنسبة لأولاي، كانت سرقة اللوحة لفتة فنية لنقد المؤسسات، لقد كان مدركاً للأهمية الرمزية لهذه اللوحة باعتبارها رصيداً ثقافياً وطنياً: "لقد أحب هتلر هذه الصورة وأعجب بشبيتزفيج بشدة"، قال أولاي. وأراد التكشيك في سلطة المتاحف بشكل عام وسلطة المعرض الوطني الجديد بشكل خاص كمؤسسات إقصائية في ذلك الوقت. تم افتتاح المتحف الوطني الجديد كجزء من محاولة برلين الغربية لاستعادة صورتها بعد الحرب من خلال التجديد الحضاري والمؤسسات الثقافية الجديدة. عارض أولاي إضفاء الطابع المؤسسي على الفن في المتاحف و استغلاله كأداة لتعزيز الثقافة و لأغراض سياسة الدولة وتحقيق الأوهام القومية. لقد رأى في ذلك "لمسة إجرامية" بحق الفن. ومن خلال سرقة ونقل أيقونة فنية ذات قيمة وطنية، أراد أولاي لفت الانتباه إلى ما استبعده مجتمع ألمانيا الغربية قسراً: سكان العمال المهاجرين الأجانب، الذين كان يشار إليهم آنذاك بشكل ازدراء باسم "العمال الضيوف"، الذين عاشوا في ظروف عمل ومعيشة استغلالية. حيث كانوا يحرمون من الحقوق السياسية والقانونية وواجهوا واقع العنصرية اليومية والهيكلية.
أصبح ما فعله أولاي في اليوم التالي حديث الصحافة التي سخرت منه "في البداية"، وتم وصفه باليساري المتطرف، المجنون، لكن فيما بعد أدرك الناس ما كان يريد قوله من خلال الاحتجاج على السلطة وخطورة الفخر الوطني الذي قد يتحول الى فاشية والى حقوق العمال المهاجرين المهدورة والعنصرية ضدهم وضد المهاجرين الآخرين في ألمانيا.
توفي أولاي في العام 2020 في ليوبليانا عاصمة سلوفينيا عن عمر يناهز السادسة والسبعين عاماً تاركاً بصمة في النشاط المدني والفني والانساني بشكل عام.
للتوسع بالقراءة عن الموضوع باللغة الألمانية الرجاء إضغط هنا.