-
فرنسا: "برلمان المنفيين"...مبادرة جريئة لرسم دور اللاجئين في المنفى
-
من الهامش إلى المنبر... هل يصيغ المنفي تمثيله السياسي

باريس - خاص
لا أحد يختار المنفى، لكنه يحدث، فجأة يأتي كزلزال لا يُنذر، ولا يترك شيئاً في مكانه، يأخذك إلى مكان انت فيه غريب الوجه واليد واللسان، فتُخلع من جذورك، لتنشأ في أرض لا تعرفها، ويُطلب منك "بصمت" أن تنمو من جديد.
في ظل تصاعد الخطابات السياسية حول الهجرة في فرنسا وأوروبا، ونقاشات تشريعية محتدمة حول مستقبل اللاجئين والمهاجرين، ولدت فكرة مختلفة وجريئة "برلمان المنفيين، مشروع لا يسعى فقط إلى تقديم المهاجرين كقصص مأساوية، بل كأفراد فاعلين سياسياً، يمتلكون صوتاً وتجربة، ويطالبون بتمثيل حقيقي في النقاش العام.
ليس من السهل أن يُولد مشروع كهذا في لحظة تتسم بالانغلاق والريبة تجاه "الآخر"، لكنه وُلد.
من الفكرة إلى المؤسسة: حلم أخذ شكله ببطء
بدأت بذرة الفكرة، كما يرويها رودي عثمان ودنيا حلاق لمنصة المهاجرون الآن - وهما من مؤسسي المشروع - في لحظة شعور بالفراغ السياسي: "في ذروة النقاشات حول قانون الهجرة في فرنسا، لاحظنا غياب شبه تام لأصوات المنفيين أنفسهم عن طاولة الحوار"، تقول دنيا، ويضيف رودي: " كان الجميع يتحدث عن المهاجرين، لا معهم، يستضيفونهم فقط ليتكلموا عن معاناتهم، لا لمناقشة السياسات التي ستؤثر على حياتهم."
ومن هذه الفجوة خرجت الفكرة الأولى:" ماذا لو أنشأنا برلمانًا يمثل المنفيين؟ لا ليمارس سلطة تشريعية، بل ليُعبّر، ليُفكّر، ليُقدّم رؤية مغايرة من داخل المنفى لا من خارجه" تقول دنيا، وتضيف: "استلهم الفريق النموذج من تجارب برلمانات رمزية سابقة في فرنسا، مثل برلمان الأطفال وبرلمان الشباب، وبدأنا ببناء النموذج من الصفر. استغرق الأمر عامين من المشاورات والعمل مع منظمات المجتمع المدني، وباحثين، ونواب سابقين، وصولًا إلى الشراكة مع جامعة باريس نانتير، التي احتضنت المشروع أكاديمياً، وأسست لأجله دبلوماً جامعياً خاصاً بالتدريب السياسي المدني للمنفيين."
يؤكد رودي: "برلمان المنفيين ليس منصة حزبية، ولا يحمل أجندة سياسية بالمعنى التقليدي، هو مساحة مدنية مستقلة، تسعى إلى إعادة تعريف ما تعنيه المشاركة السياسية للمنفيين في أوروبا، بدءاً من فرنسا."

الإطلاق رسمي والمكان رمزي
في8 يناير 2025، شهد مقر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الفرنسي (CESE) في باريس الإطلاق الرسمي للمشروع، بحضور نائب الرئيس كينزا أوكانسي، وشخصيات من المجتمع المدني الفرنسي والأوروبي، بالإضافة إلى مرشحين من أكثر من عشر جنسيات.
"اختيار هذا المكان لم يكن صدفة، لأن مجلس CESE يعدّ واحداً من أبرز رموز الحوار المدني في فرنسا، بعيداً عن الهيئات السياسية الرسمية، وقد أُريد للإعلان أن يتم من موقع يعكس الطابع التشاركي والتمثيلي للمشروع" تقول دنيا.
ورغم أن الاسم قد يثير التباساً، يؤكد "رودي" أن البرلمان ليس كياناً سياسياً ينازع السلطات، أو يتدخل في السياسات، بل هو منصة تعليمية وتمثيلية تهدف إلى خلق جيل من المنفيين القادرين على فهم الحياة العامة الفرنسية، والمشاركة فيها لاحقاً، إن شاءوا، من خلال أدواتها الرسمية أو منظمات المجتمع المدني، يطلب الاعتراف الرمزي بمن تم إقصاؤهم طويلاً عن المشاركة.
من يحق له الترشح؟
شروط الترشح كانت محددة ولكن مرنة، يجب أن يكون الشخص بين سن 18 و65 عاماً، مقيماً في فرنسا بصفة لاجئ أو مهاجر في حالة منفى، وله خبرة في العمل الجماعي أو المدني سواء في بلده الأم أو في فرنسا، كما اشترط المشروع حداً أدنى من اللغة الفرنسية من مستوى B2، وشهادة دراسية على مستوى البكالوريا، نظراً لطبيعة التدريب والتفاعل المطلوب.
تقدّم للمشروع أكثر من 225 مرشحاً، خضعوا جميعًا للتقييم من لجنة مختصة ضمّت أكاديميين، نواباً سابقين، وفاعلين مدنيين من خلفيات متعددة، وبعد مراحل الفرز والمقابلات، تم اختيار 30 مرشحاً نهائياً لخوض العملية الانتخابية، لاختيار 15 نائباً يُمثّلون برلمان المنفيين في دورته الأولى، ويكون التصويت عبر موقع الكتروني مخصص، وللمقيمين في فرنسا بشرط ألا يكونوا فرنسيين او حاصلين على الجنسية الفرنسية.
وللتصويت يمكنك الضغط هنا.
رحلة البرلمان
يتألف الهيكل البرلماني من ثلاثة مراحل، المرحلة الانتخابية ويُنتخب فيها 15 نائبًا يمثلون المجتمع المنفي في فرنسا.
ثم المرحلة الأكاديمية والعملية، ومدتها سنة كاملة، منها 3 أشهر دراسية في جامعة "باريس نانتير"، ثم يتلقى فيها النواب المنتخبون تدريباً سياسياً ومدنياً مكثفاً حول عمل المؤسسات، الحملات، التواصل مع الإعلام، وقضايا الحقوق، ايضاً سيتعرفون على تجارب النواب الفرنسيين، والمجتمع المدني، والنقابات، مع تدريب ميداني مع نائب فرنسي في البرلمان.
من قلب التجربة...أصوات مرشحين
فراس حاج يحيى، حين يصبح القانون أداة لتمكين المنفى، وفي أحد أحياء باريس، يواصل فراس حاج يحيى، المحامي والباحث القانوني السوري، طريقه بثبات نحو مشروع يراه فرصة ومسؤولية في آن، لا ينظر إلى "برلمان المنفيين" كمنصة رمزية فقط، بل كخطوة أولى على طريق بناء تمثيل حقيقي للمنفيين داخل الحياة العامة الفرنسية.
منذ سنواته الأولى في فرنسا، فراس كما يقول لمنصة المهاجرون الآن لاحظ غياب أصوات اللاجئين عن النقاشات السياسية التي تمسّهم بشكل مباشر، غالبًا ما يُقدَّم اللاجئ كقصة معاناة أو كرقم في إحصاءات الهجرة، نادرًا ما يُنظر إليه كشريك في صياغة الحاضر، بالنسبة له، كان لا بدّ من قلب المعادلة: أن يكون المنفى دافعًا للفعل، لا عذرًا للغربة.
بخلفيته القانونية وتجربته الإعلامية، قرر أن يرشح نفسه إلى البرلمان، مدفوعًا بإيمانه أن المنفيين ليسوا جمهورًا صامتًا بل أصحاب رأي يجب أن يُصغى إليه، رغبته الأساسية كانت الدفاع عن حقوق المنفيين في التعليم العالي والمساعدة القانونية، معتبرًا أن هذه الأدوات ضرورية كي لا يبقى اللاجئ أسير التبعية أو العجز.
ورغم الحماسة، لم تغب عنه التحديات، لاحظ ضعف المشاركة من الجاليات التي ما تزال أسيرة الخوف أو اللامبالاة، خاصة المجتمع السوري الذي عانى من تهميش سياسي طويل، لكنه رأى أيضًا اهتمامًا فرنسيًا لافتًا بالفكرة، ورغبة من بعض الجهات في دعم المبادرة، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر. بالنسبة له، التجربة في بداياتها، لكنها تُبنى على أسس صحيحة: الشفافية، الكفاءة، والاستقلالية.
"أحلم بمسار سياسي مستقبلي، لا لتمثيل الجالية فقط، بل لصناعة تغيير حقيقي. وهذا البرلمان بداية مهمة، حتى لو رمزية"، يختتم فراس حديثه مع المهاجرون الآن.

فرح أورفلي، وصلت إلى فرنسا عام 2022، كانت تحمل معها حقيبتين، واحدة فيها أوراقها الطبية، والأخرى مليئة بالأسئلة عن المستقبل، تركت خلفها مدينة حلب بكل ما تعنيه من ثقل وتجربة، لكنها لم تنوِ أن تبدأ من الصفر، بل من حيث توقفت قصتها السابقة.
طبيبة أسنان وطالبة ماجستير في الصحة العامة في جامعة السوربون، اختارت منذ البداية أن تندمج في نسيج المجتمع الفرنسي، لا كمراقبة، بل كمشاركة، وجدت في "برلمان المنفيين" فرصة لإسماع صوتها، لا لتكون "نموذج نجاح فردي"، بل ممثلة لجيل من اللاجئين الذين يرفضون أن يكونوا فقط ضحايا، توضح فرح لمنصة "المهاجرون الآن."
بالنسبة لفرح، اللجوء ليس فقط تجربة اقتلاع، بل أيضًا مساحة جديدة لإعادة تشكيل الهوية. أرادت أن تدافع عن حق اللاجئين في الكرامة والتمثيل، وأن تساهم في كسر الصور النمطية عنهم. "لسنا صامتين"، تقول، "لدينا قصص، ولدينا مشاريع، ولدينا ما نضيفه".
رأت في الترشح تحديًا شخصيًا وجماعيًا. لم يكن سهلاً، لكنه كان ضروريًا. لم تكن تعرف إن كان ترشحها سيحدث صدى، لكنها آمنت أن مجرد دخولها الحلبة السياسية، ولو الرمزية، هو فعل مقاومة للغياب. خلال الحملة، تواصلت مع لاجئين من جنسيات مختلفة، وشعرت أن كثيرين يرون فيها صوتًا يشبههم، لا لأنها تمثلهم بالكامل، بل لأنها تعبّر عن حلم مشترك: أن نكون مرئيين.
بالنسبة لفرح، برلمان المنفيين ليس تجربة سياسية بالمعنى التقليدي، بل مساحة لإعادة تخيّل المشاركة، حيث يكون اللاجئ فاعلاً لا تابعًا. المنفى، كما تؤمن، ليس نهاية، بل بداية محتملة لمواطنة جديدة — أكثر عدلاً، وأعمق إنسانية.

آراء متباينة من داخل مجتمع المنفيين
لكن المشروع لم يُقابل بحماس شامل، بعض المهاجرين واللاجئين ينظرون إلى الفكرة بشيء من التحفظ أو الريبة.
حسن وهو لاجئ سوداني، 36 عامًا ويقيم في ضواحي باريس، يقول في لقاء سريع مع المهاجرون الآن: "لا أريد أن أتورط في شيء يبدو سياسياً، حتى لو قيل غير ذلك، نحن هنا لنحاول النجاة فقط".
في المقابل، نهى يمنية، 29 عامًا، وتقيم في ليون، تؤيد المشروع بقوة: "أخيراً هناك مساحة لا نُعامل فيها كضحايا فقط. أريد أن أقول للفرنسيين: أنا هنا، ولي رأي."
جورج وهو لبناني 51 عاماً ويقيم منذ حوالي 20 عاماً في باريس، يعبّر عن شكوكه ويقول: "الفكرة جيدة، لكن هل ستُحدث فرقًا حقيقيًا؟ أم ستظل رمزية، أقيم منذ فترة طويلة ولم يخطر ببالي مثل هذا التأثير؟".
بينما ترى أنجي 30 عاماً، وهي مصرية تكمل دراستها أن البرلمان "فرصة نادرة لننتمي سياسيًا لمكان طردنا منه كثيرًا".
في الختام...منصة للإنصات فقط
يُدرك مؤسسو المشروع أن التحديات كبيرة، من التمويل إلى التفاعل الجماهيري، ومن الهواجس القانونية إلى التصورات السياسية، لكنهم يرون أن التغيير يبدأ من أصحاب المعاناة.
"برلمان المنفيين"، كما تقول دنيا حلاق هو دعوة للإنصات، منصة تقول إن المشاركة لا تحتاج بالضرورة إلى جواز سفر، بل إلى شجاعة الحضور، في بلد ديمقراطي كفرنسا، تبدو المبادرات الرمزية ذات طابع خاص، وبرلمان المنفيين ليس مجلساً تشريعياً، لكنه مختبر اجتماعي وفكري يعيد رسم العلاقة بين المنفيين والمجتمع المضيف.
قد تحب أيضاe
تصويت / تصويت
هل العنصرية ضد المهاجرين ممنهجة أم حالات لاتعبر عن المجتمعات الجديدة؟
الأكثر قراءة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!