-
هل تخسر فرنسا نهائياً سمعتها الجيدة على صعيد الحريات؟
-
عن مستوى الحريات لدى دول المهجر التي تعتبر ملاذاً لصفوة المضطهدين والممنوعين من التعبير
نورس يكن
لم تنته فرنسا بعد من احتفائها بالتنوع إثر انتخاب الروائي والكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف أميناً عاماً دائماً للأكاديمية الفرنسية، أعلى وأرفع مؤسسة معنية باللغة الفرنسية، حتى طغى نقاش الهوية الفرنسية مرة أخرى عندما ضربت حكومة الرئيس ماكرون عرض الحائط، حرية تعبير حوالي 10٪ من سكان البلاد على الأقل، يصادف أن الغالبية العظمى منهم فرنسيون من أصول مهاجرة أو مهاجرون، وهذا ليس بالعدد القليل. فرنسا تتبنى مبدأ عدم تجميع البيانات السكانية بناءً على العرق أو الأصل العرقي، ولذلك لا يمكن أن نعرف الرقم الدقيق عن عدد المسلمين في فرنسا، وهو بحسب التقديرات 6 ملايين، إلى جانب العرب غير المسلمين والفرنسيين من أصول عربية والتيارات الداعمة للقضية الفلسطينية من الفرنسيين أنفسهم، كل هؤلاء واجهوا تهديدات صريحة من الرئيس إيمانويل ماكرون ووزير داخليته، جيرار دارمانان، ترقى إلى مستوى التهديدات التي تصدر عن الأنظمة القمعية.
بلاد النور كما تُعرف، لا تتمتع بسمعة جيدة على صعيد الحريات، فمؤشر حرية الصحافة للعام 2023 وضع فرنسا في المركز 24 وهو مركز متأخر بالنسبة لدولة صدّرت إلى العالم مبادئ الحرية والجمهورية، ولا بد هنا من معرفة أن فرنسا في هذا المؤشر تفوقت على كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه الأيام وعلى الرغم من قرار المحكمة الإدارية العليا (أعلى سلطة قضائية فرنسية) رفع الحظر على المظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، يعيش المجتمع العربي داخل فرنسا حالة من المشاعر المختلطة بين الغضب والخوف والصدمة وخيبة الأمل.
ربما لا تعرف فرنسا أو حكومتها أن من المهاجرين من يؤمن حقاً بالجمهورية ومبادئ الجمهورية (حرية، مساواة، أخوة)، لكن تعاطي الحكومة الفرنسية داخلياً مع الحرب الأخيرة في الشرق الأوسط ربما يولد أو يعزز شرخاً اجتماعياً في فرنسا يبدو أن لا حلول كثيرة لردمه، لقد أخبرني أحد الأصدقاء أنه بات يفكر جدياً بترك فرنسا، إلى أي مكان، حتى ولو كان سيعود إلى بلاده، ذكرني بالأغنية الشعبية "لهجر قصرك وارجع بيت الشعر".
رفضوا الكشف عن أسمائهم
مع التطور المستمر للمعركة في غزة تتفاعل القضية داخلياً ويدور النقاش تحت قبة البرلمان، ويتم تراشق الاتهامات، لا بل التهديدات بالقتل أيضاً، فعلى قناة، سي نيوز، والمعروفة بدعم التيارات اليمينية في البلاد، طالب المغني الفرنسي الشهير، إنريكو ماسياس، بالتصفية الجسدية للنواب اليساريين والأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية
هناك أجواء من الخوف تخيّم على مجتمع اللاجئين والمهاجرين. لقد واجهت صعوبة في إقناعهم بالتصريح لوسيلة إعلام ولو غير ناطقة بالفرنسية، بالنهاية كنت مضطراً لطرح فكرة استخدام أسماء مستعارة، هل نصدق أننا نضطر لاستخدام أسماء مستعارة في فرنسا للتعبير عن رأي لا توافق الدولة عليه؟
غيث بسام، فرنسي من أصول عربية وصل إلى فرنسا لاجئاً منذ سنوات وحصل على الجنسية الفرنسية مؤخراً، قال إنه شعر للمرة الأولى بعدم امتلاك حرية التعبير الكافية، وأنه في موقف يفرض عليه إنتقاء كلماته لأن الوضع حرج، وهناك حالة من التنميط في المجتمع الفرنسي.
وأضاف غيث: "هذه المرة الأولى التي أختلف فيها مع السياسة الفرنسية، هناك ظلم لشعب كامل، لا يمكن إنكار أن فرنسا تعرضت للإرهاب الإسلامي، أثر ذلك على سياسة الحكومة وأدى إلى ارتفاع صوت اليمين المتطرف".
مع ذلك لم يهتز انتماء غيث لفرنسا، ويبرر ذلك بأن انتماءه لبلده الأصلي الذي هرب منه نتيجة القمع لم يتغير، موضحاً أن الانتماء للبلد لا يعني الاتفاق مع حكومة البلد، والاختلاف معها لا يعني عدم الانتماء.
عند سامي، وهو أيضاً اسم مستعار، الصورة لا تختلف كثيراً فهو يشعر بالخوف والتحفظ من التعبير عن رأيه، لكنه يعبر أن الصدمة لديه كانت أكبر كوافد جديد إلى البلاد. يقول: "إن طريقة دعم الحكومة الفرنسية لإسرائيل صادمة، كون إسرائيل تعتبر دولة احتلال حسب القانون الدولي، ولا يمكن تبرير انتهاك هذا القانون، خاصة عندما نشهد استهداف المدنيين عمداً أو تنفيذ هجمات عشوائية، واعتبار تلك الانتهاكات نابعة من الظلم وحق الدفاع عن النفس أو غير ذلك من الحجج السياسية".
ويتابع: "أنا قادم من عالم محشو بالحروب والاستبداد، وفرنسا هي البلد الذي آمنت أنه سيكون مأوى نهائياً لي في لحظة ما، مما جعلني أدرك أن حريتي في التعبير يمكن أن تحتجز هنا بالقانون".
ويوضح سامي: "قد لا يكون هناك شيء اسمه حرية تعبير مطلقة، إنما تختلف سعة صدر الأنظمة لتقبل حرية تعبير الناس عن أفكارهم من مكان لآخر".
الصورة بالنسبة لسامي سوريالية نوعاً ما، فهو قادم من العالم العربي الذي كانت حرية التعبير الوحيدة المصونة فيه، هي حرية التعبير عن دعم القضية الفلسطينية، بينما اليوم يفشل في فعل ذلك في دولة مثل فرنسا.
الصورة الفرنسية اهتزت عند سامي: "فرنسا دولة علمانية، وهذا يناسب أفكاري ونمط حياتي، لكن التطرف في بعض القضايا والهستيريا في الدفاع عن بعض الأفكار أمر غير صحي، اليقين الذي كنت أملكه حيال استقراري في فرنسا، تحوّل إلى شك، رغم أني لازلت أشعر بالامتنان لهذا البلد".
من دولة القانون إلى الدولة الأمنية
هذه الأجواء الغريبة على فرنسا، الدولة التي طالما اعتبرت نفسها جنة الحريات، لا سيما الفردية والاجتماعية منها وإن كانت لا تحتل مركزاً مرموقاً في مؤشر حرية الصحافة، ترك حالة من الارتباك يصفها، صخر إدريس، مدير موقع (المهاجرون الآن) ومقره باريس: "هو ارتباك بين التضامن مع المدنيين الأبرياء الذين يعانون من آثار أي حرب، وبين الحركات السياسية أو المسلحة التي تصنف على أنها إرهابية".
ويضيف: "قد لا يكون هناك شيء اسمه حرية تعبير مطلقة، إنما تختلف سعة صدر الأنظمة لتقبل حرية تعبير الناس عن أفكارهم من مكان لآخر".
لكن إدريس لفت إلى انعكاس ذلك على حرية التعبير في فرنسا بالقول: "هذا الاضطراب يشكل تهديداً لحرية التعبير المسؤولة وأشدد على المسؤولة هنا، ويمكن أن يكون له تداعيات خطيرة في المستقبل، بما في ذلك تبريرات لقمع أي أصوات تعارض السلطة الحاكمة، وخصوصاً إذا ارتفع صوت اليمين المتطرف الذي يستخدم المهاجرين كذريعة لقمع الحريات والتشكيك في قيم أوروبا".
وأكد إدريس أنه يجب أن يتم الإصرار دائماً على أهمية هذه الحرية في أوروبا، التي كانت ملاذاً لصفوة المضطهدين والممنوعين من التعبيرعن آرائهم في بلدانهم، حسب وصفه.
هذا الكلام يرفضه زيد العظم، وهو محامٍ وكاتب وعضو في حزب النهضة الفرنسي، الحزب الحاكم في البلاد، ويقول: "تعامل الحكومة الفرنسية غلب عليه سمة الجنوح إلى التهدئة وعدم التصعيد".
كما شدد العظم على أن الرئيس ماكرون أدان الهجمات التي تعرض لها المدنيون في غلاف غزة، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الضمان الحقيقي لإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط بين إسرائيل وفلسطين، يكون عبر إقامة دولة فلسطينية، تلك التي تستند على قرارات مجلس الأمن على حدود الرابع من حزيران.
وبالتعليق على حرية التعبير تحديداً يقول العظم: "في زمن الأحداث الاستثنائية يشعر البعض في فرنسا أو ربما كثر بأنهم في حرج أو تحت ضغط مجتمعي عندما يعبرون عن آرائهم، لأسباب عديدة أولها الاحتقان المتولد من الأحداث الدولية، وهذا ما يقلق الداخلية الفرنسية عندما قالت بأن حرب إسرائيل - حماس سيكون لها تبعات مؤكدة في فرنسا".
لكنه يرى أن: "الدولة الفرنسية تسعى لاستيعاب مايحدث وفي هذا قد تلجأ إلى الإباحة تارة وإلى التقييد تارة أخرى من زاوية المفاضلة بين الأمن وبين حرية التعبير".
يتعارض مع هذا الرأي أستاذ الفلسفة السياسية خلدون النبواني، الذي يقر بأحقية القلق الفرنسي من انتقال الصراع في الشرق الأوسط إلى داخل فرنسا، لكن في الوقت نفسه يجد الأمر أكثر توتراً، ويوضح: "الحكومة تبدو أكثر تشدداً وتميل إلى المعالجة الأمنية بالذات بما يتعلق بالإسلام السياسي".
ويلفت النبواني إلى أنه ومن بداية ولاية ماكرون، فضل الرئيس الفرنسي تكريس سمات الدولة الأمنية على حساب دولة القانون.
ويقول: "بسبب ذلك فرنسا اليوم هي موطن حقيقي وهش للاضطرابات الاجتماعية، وهذا ما لاحظناه عند حادثة مقتل الشاب نائل في ضواحي باريس، وبالتالي فرنسا محتقنة ولا يوجد معالجة جذرية لقضايا الاختلاف الثقافي والديني وهناك تحيز واضح".
ويتابع: "هذا التحيز وكل ما يتم متابعته من مظاهر التضامن مع إسرائيل، كونها ابنة المشكلة الغربية بالأساس يؤدي إلى حالة من الهشاشة الاجتماعية ليس فقط بما يتعلق بالفرنسيين من أصول مهاجرة أو المهاجرين، بل يمتد الموضوع للفرنسيين من أبناء التيارات اليسارية والمناصرين للقضية الفلسطينية".
ويصف النبواني فرنسا كالمصاب بمرض مناعة ذاتية، عندما يقوم جهاز المناعة بمهاجمة خلايا الجسم نفسها على أنها أجسام غريبة.
ويؤكد أن ما يحدث اليوم هو أن الديمقراطية تعطل نفسها بحجة حماية الديمقراطية، وحماية البلد من الإرهاب والاضطرابات عبر منع المظاهرات وفرض الحل الأمني وقانون الطوارئ وهذا ما حدث سابقاً في فرنسا عام 2015.
على ما يبدو أن أزمة حرية التعبير في فرنسا أعمق من حرب إسرائيل في غزة، وكذلك أزمة الهوية أعمق من الصراع العربي الإسرائيلي، وحضور الجالية المسلمة في البلاد والذي تجاوز القرن.
في فرنسا مخاوف حقيقية على مصير الديمقراطية في البلاد التي تعتنق العلمانية وتصر على المساواة، لكن ما يمكن أن يكون مخيفاً حقاً هو تكرار هذه الأفعال التي تعزز صورة الدولة الأمنية، وذلك بدءاً من هجمات باريس 2015، التي أدت إلى فرض قانون الطوارئ وتسيير دوريات للجيش في شوارع العاصمة وهذا ما كان غريباً على دولة مدنية، علماً أن هذه الدوريات تعمل حتى يومنا هذا، أي على بعد أيام من الذكرى الثامنة للهجوم.
وانتقالاً إلى القمع الذي تعاملت به السلطات مع احتجاجات السترات الصفراء سابقاً وما تلاه من إصدار قانون الأمن الشامل، والذي منع تصوير الشرطة أثناء تنفيذ عملها، ما اعتبر حداً من حرية الصحافة، التي لدى التطرق لها لا يمكن نسيان حظر بث وسائل الإعلام الروسية في البلاد وإغلاق مكاتبها عقب غزو أوكرانيا، وصولاً إلى ما نشهده في هذه الحرب الجديدة في الشرق الأوسط.
ليكون السؤال المهم هو: "هل يجب أن يخاف الفرنسيون اليوم على الجمهورية التي دفعوا ثمنها من دمائهم قبل أكثر من قرنين في ثورة باتت علامة تاريخية؟".
المادة نقلاً عن رصيف22 وتعبر عن رأي كاتبها.